الاثنين، ديسمبر 12، 2016

يوميات

(1) علينا أن نثق في الألم، دائماً؛ ولو مرة واحدة فقط! https://www.youtube.com/watch?v=1mHuf8owjoQ&feature=youtu.be (2) كل الأشياء صغيرة، تكبر عندما نشعر؛ بوجعنا فيها وبها. (3) كلمة صغيرة، تخرج تنين الحزن من أحشائنا. (4) سعدتُ اليوم، باتصال من صديقي (أبا فراس)؛ الذي قاسمني بؤس السنوات في غرفة مرمية في الخوض، وأنا استمع إلى صوته المجروح، يخرج منتفضاً بنشوة"ذاكرة الكورفيدا". آه..كم أسعدني ذلك، واخرجني من موجة الاكتئاب التي استعمرتني منذ أيام. (5) لا شيء، سوى أشياء عابرة ...

الاثنين، ديسمبر 05، 2016

حواري مع وكالة الأنباء العمانية، والذي نشرته جريدة الوطن في ملحق أشرعة بتاريخ: 4/12/2016 الخطّاب المزروعي: القصّة فنُّ الإمتاع .. ويحزنني أن كتّابٌا وأدباء في الساحة الثقافية أطلقوا على “ذاكرة الكورفيدا” قصة طويلة !! يعترف أنه لم تكن هناك مسافة بين الراوي/ البطل/ المؤلف أنا لا ألزم نفسي باختيار الجنس الأدبي الملائم للنص قبل الكتابة!
مسقط ـ العمانية : المتتبع لإصدارات الكاتب العماني الخطاب المزروعي يلحَظ تطوّر لغته القصصية، فـ”عندما نمتلك اللغة ـ وهي إحدى وسائل التواصل التي يستخدمها الإنسان مع محيطه ـ نستطيع أن نوصل رسائلنا المباشرة أو الضمنية بشكل أدق وسريع”، لذلك يحرصُ صاحب “لعنة الأمكنة” (2003) على القراءة في المجالات الإنسانية المختلفة أكثر من حرصه على الكتابة، مما يجعل لغته تتطور تلقائياً وكأنه في مرانٍ دائم. يستعير الخطاب المزروعي في حواره مع وكالة الأنباء العمانية عبارة “تشومسكي” : “نمو اللغة عند الإنسان يشبه نمو الجسم”، مشيراً إلى أن لغة النص القصصي تختلف عن لغة الرواية؛ ولا بد أن تكون مركّزة وخاطفة ولامعة في آن. ولأن المزروعي تنقّل في الكتابة بين القصة، والنص، والقصة القصيرة جداً، والرواية، يثور السؤال: “أين تجد نفسك أكثر؟”، ليجيب عنه بقوله: “أنا لا ألزم نفسي باختيار الجنس الأدبي الملائم للنص قبل الكتابة! الموضوع هو الذي يملي عليّ ذلك، فلكلّ موضوع طريقةٌ يمكن طرحه ومعالجته أدبياً من خلالها”. ويضيف صاحب “التباسات”، وهي نصوص أدبية جمعها في كتاب سنة 2007: “أجد نفسي منجذباً للقصة القصيرة وفي الوقت نفسه تسحبني الرواية إلى أفقها الممتد، ولدي أيضاً مجموعة شبه مكتملة في القصة القصيرة جداً لكني لا أنوي نشرها قريباً، خشية أن أكرر نفسي من دون إضافة فنية، فهذا الأمر يقلقني”. ويرى المزروعي أن الاعتقاد بأن السارد يبدأ قاصاً وعندما “ينضج” يلجُ عالم الرواية، “تنقصه الدقة”، فالقصة القصيرة بحسبه، “جنس أدبي مستقل، وله لغته ومحيطه وظروفه”، وهذا ينطبق على الرواية أيضاً، وإن كان هذان الجنسان يشتركان في القصة أو الحكاية. ويستشهد بفوز الكاتبة الكندية “آليس مونرو” بجائزة نوبل للآداب (2013) بوصفها قاصة إذ لم تُعرَف كروائية، وفي المقابل مُنح الروائي الكولومبي “جابرييل جارسيا ماركيز” الجائزة (1982) على أعماله الروائية رغم أن إصداراته الأولى كانت في القصة القصيرة. ويميل المزروعي إلى وصف القصة بـ”فن الإمتاع”، مؤكداً أن على الكاتب “عجْنَ حكايته بلغة مشوقة وجاذبة ومدهشة، وتحويل الحكاية العادية إلى حكاية غير عادية، وإلا سيفقد القارئ دهشته وتشويقه وينصرف عنه”. ويبدو المزروعي في قصص “لعنة الأمكنة” بطلَ الحكاية؛ فهل من مسافةٍ يراها ضرورية بين النص السردي وسيرة الكاتب؟ هل يمكن القول إننا “نكتُبنا” على الورق بشكلٍ أو بآخر، وإن أصداء سيرتنا تتوارى بين سطور قصصنا؟ يؤكد المزروعي أن الراوي في القصص ليس الخطّابَ المزروعي “بالضبط”، ويستدرك بقوله: “أعترف أنه لم تكن هناك مسافة بين الراوي/ البطل/ المؤلف، وهذه من عثرات البداية التي وقعتُ فيها، فأنا أتعلم كل يوم، ولكنني في المقابل أستشهد دائماً بمقولة الطيب صالح: القصة القصيرة هي سيرة ذاتية غير معلنة”. ويشير إلى أهمية قطْع الوشائج بين الشخصيات والأفكار التي تطرحها في القصة القصيرة وبين المؤلف، فلا بد من إتاحة الفرصة للشخصيات لتتكلّم وتعبّر بعيداً عن وصاية الكاتب عليها وعلى القارئ. وفي حديثه عن “لعنة الأمكنة”، يقرّ المزروعي أنه وقع في مزلق اللغة الشعرية في هذه المجموعة، مما أثر على مجريات الحدث، رغم أن هناك من أعجبته لغة تلك المجموعة أكثر من مجموعة “الرائحة الأخيرة للمكان” (2011)؛ كون اللغة في “لعنة الأمكنة” مشحونة وشخصياتها قلقة ومتوترة بشكل مباشر وتعبّر عن حالاتها الاجتماعية والنفسية. وفي كتاب “التباسات”، يكتسي النص لدى المزروعي معنى جديداً ومغايراً مع كل قارئ بسبب انفتاحه على التأويل، فليس بمقدور أحد ادعاء امتلاكه المعنى النهائي للنص. فهل هو البحث عن قارئٍ شريكٍ يعيد إنتاج النص؟ يقول المزروعي في هذا السياق: “حين أكتب، لا أضع في رأسي قارئاً شريكاً أو مفترضاً، بل أترك للنص أن يخرج كما هو، لذلك جاءت (التباسات) ملتبسة الأجناس، وكتبتُها بوعي؛ في محاولةٍ للتخلّص من اللغة الشعرية في (لعنة الأمكنة)”، ويكشف أن هذا ساعده كثيراً في مجموعته التالية “الرائحة الأخيرة للمكان” التي تكشف عن ميله للتكثيف والاشتغال على البلاغة والإيجاز. تشتمل مجموعة المزروعي “سيرة الخوف” (2014) على نصوص تندرج ضمن “القصة القصيرة جداً”، وهو يرى أن “عدد الكلمات” معيار ضروري لغايات التجنيس الأدبي؛ ولكنه ليس الفيصل، فالقصة القصيرة جداً “تحتاج لمران لغوي وحكائي، فهي تقول كل شيء، وفي الحقيقة لا تقول شيئاً، لأنها حمَّالةُ دلالات مكثفة، والقارئ سيكون جزءاً منها مستقبلاً”. ويتّفق المزروعي مع من يرى أن هناك استسهالاً في كتابة القصة القصيرة جداً، من دون اهتمامٍ بمعاييرها ومتطلباتها، وذلك بتأثيرٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن للقصة القصيرة جداً أسماء فرضتها اللغاتُ والحالاتُ الاجتماعية، ففي أمريكا اللاتينية أُطلِقَ عليها “قصص ما بعد الحداثة”، وفي اليابان “قصص بحجم راحة اليد”، وفي الصين “قصص أوقات التدخين”، وفي الولايات المتحدة “قصص الومضات”، وفي العالم العربي شاعت أسماء كثيرة منها: “لوحات قصصية”، و”مقطوعات قصصية”، و”بورتريهات”، و”مشاهد قصصية”، و”أقصوصات”، و”ملامح قصصية”، و”القصة القصيرة الخاطرة”، و”القصة القصيرة الشاعرية”، و”القصة القصيرة اللوحة”. ولهذا لن نجد استقراراً واضحاً على مستوى الشكل في القصة القصيرة جداً. تبرز في قصص المزروعي الأسئلةُ الكبرى عن الوجود، والحياة، والموت. فهل تحتمل القصةُ الفلسفةَ، وهل عليها أن تعبّر عن موقف فلسفي؟ في هذا السياق، يعيد الكاتبُ التذكير بأن القصة كما يرى، “فنُّ الإمتاع”، ومن خلال القصة نستطيع طرح كثير من الأسئلة عن الحياة والوجود والموت والفرح والجمال والحرية وجميع المسائل والقضايا التي تهم الإنسان. ويستدرك بقوله: “لا أستطيع أن أقول بالمطلق إن القصة لا تحتمل الفلسفة بالمعنى العميق للفلسفة، فهناك قصص وروايات قرأتها ممتعة وقد انطلقت من منظور فلسفي، كرواية (المحاكمة) لكافكا، وكثير من أعمال ألبير كامو. لكن ما يجعل القصة الفلسفية تختلف عن القصة الأدبية؛ إنها تحتوي على رموز ومواقف معينة وتنظير في رسم الأشياء من جديد في الحياة، مما قد يُفقدها عنصر المتعة، ولكن في المقابل نستطيع أن نكتب القصة الأدبية التي تحمل دلالاتها وعمقها الفلسفي، من غير أن نحيد عن إمتاع القارئ وإدهاشه”. مضى أزيَد من عشرين عاماً منذ بدأ المزروعي مشروعه الأدبي، لكنه يرفض قياس جودة مُنتَجه بهذا المقياس، فهناك من يقضي عقوداً في الكتابة “من دون إضافة فنية أو حتى معرفية”. أما لماذا يواصل هو الكتابة، فلأنه –كما يقول- لم يعثر بعد على أجوبة كافية عن أسئلته الوجودية التي لازمته منذ طفولته، فضلاً عن سعيه المتجدد لإعادة رسم الأشياء و”نكشها” من حوله بطريقة مختلفة ومنهج مختلف. ويطرق المزروعي في عمله الأدبي الأخير، رواية “ذاكرة الكورفيدا” (2016)، باب التجريب الواسع في الكتابة، ويلجأ للترميز والتشويق واختيار نهاياتٍ تكسرُ التوقّع. وهو يتحدث عن هذه الرواية بقوله: “طرحتُ فيها بعض الثيمات والعُقَد في حياة الإنسان البسيط، بدأت كتابتها في فبراير 2014، لكنّها مرت بتغيرات وتغييرات بالمقارنة مع المخطط الأول الذي عملتُ عليه في البداية”، ويضيف أنه اعتمد تقنيةَ الدمية الروسية أو اللعبة الروسية، والتي تتضمن داخلها دمى أُخرى بأحجام متناقصة بالتوالي، لكنه لم يلجأ للتعقيد مفضّلاً الأسلوب البسيط في طرح الشخصيات بسلاسة من دون أن يغفل أن هناك خطّاً وهمياً سيكون في ذهن القارئ، لذلك “كثيراً ما يُطرح السؤال: لماذا لم يتوسع الكاتب في بعض الجوانب في الرواية؟”. و”الكورفيدا” (Corvida) فصيلة من الغربان تمتاز بالذكاء الحادّ، وقد تطورت هذه الفصيلة بشكل كبير على مدار حياتها. وفي الرواية اضطر المزروعي لتعريف الاسم لأسباب لغوية وفنية، ويرتبط الاسم بالشخصية الرئيسية في الرواية ارتباطاً سيميائياً. ويوضح المزروعي أن بعض الذين قرأوا هذه الرواية التي تكشف عن “ذكاء سردي” يجعل خيال القارئ مساهماً في حبكتها، وفي فهم الإشارات الرمزية التي تحفل بها، رأوا أن فيها ما يشبه البتر في مسارات بعض الشخصيات وأنه كان بالإمكان التوسع في كثير من الحكايات، لافتاً إلى أنه فضّل أن تسير الرواية كما خطّط لها؛ بصرامة وكثافة في خط سردي متماسك ومترابط، ومن دون الوقوع في الإسهاب أو أن ينهش جزءٌ منها جزءاً آخر. ويبدي المزروعي استغرابه لأن بعضهم اعتبر هذا العمل “قصة طويلة”؛ وهو عبارة عن “نوفيلا”، قائلاً: “من بين الذين أطلقوا على العمل (قصة طويلة)، كتّابٌ وأدباء لهم حضور على الساحة الثقافية في عُمان، وهذا يحزنني في الوقت نفسه، لأنهم لو رجعوا لتعريف دائرة المعارف البريطانية لمصطلح (novella) سيجدون أنه (سرد قصير محكم البناء)، والمراجع الأوروبية كثيرة ومتعددة في هذا الجانب”. يُذكر أن مجموعة “سيرة الخوف” للمزروعي، نالت لقب”أفضل مجموعة قصصية عربية صدرت عام 2014 في استفتاء أجرته منظمة كتاب آسيا وأفريقيا في اليمن، كما وصلت قصصه إلى القائمة القصيرة (200 أقصوصة) في مسابقة الأقصوصة بمتحف الكلمة في مدريد بإسبانيا (من بين 67000 متسابق) عام 2011.

الاثنين، يوليو 04، 2016

#مرئية_الاثنين: قراءة في رواية ذاكرة الكورفيدا للخطاب المزروعي

https://www.youtube.com/watch?v=G25TFgTum5M

خبر صدور الرواية في الصحف المحلية

الصديقان اللذان يطعمان غرابا لـ معاوية الرواحي

تدور رواية الخطاب المزروعي [ذاكرة الكورفيدا] في بيئة سردية مختلفة للغاية عن المتداول عادة في الرواية العربية أو العُمانية. لسبب ما يلجأ الروائيون في رواياتٍ مثل هذه إلى تعقيدات سرديّة أو إلى توصيف زائد عن الحد للشخصيات وللأحداث. هذه الرواية لم تلجأ إلى هذا التصرف المترف الذي يلجأ له الروائي الذي يريد أن يثبت للعالم مهارته الروائية، ولكن لا تنخدع عزيزي القارئ بهذه المقدمة وتعتقد أن هذه الرواية كتبت بأدوات بسيطة. قبل الخوض في العالم السردي للرواية، أذكر القارئ الكريم أن الخطاب المزروع من كتاب القصة القصيرة المعروفين في عمان، وله عدة مجموعات قصصية سابقة مضى فيها الخطاب في طيف مختلفٍ من الثيمات القصصية، من الواقعية، إلى الرمزية، إلى الواقعية الرمزية. هذه المرّة تغيرت المعادلة التي يتبعه الخطاب المزروعي عادة في أعماله القديمة، إنها لعبة الرمزية الواقعية هذه المرّة. تبدو الرواية من الخارج استحضارا لذاكرة بطلين مهمين في الرواية وهما [مرزوق] وعثمان. الحبكة عمانية من الألف للياء، تدور في القسم المهمل من الذاكرة العُمانية التي لا تطرق كثيرا في الأدب الحديث، ولكن هل كان الخطاب المزروعي سارداً فقط في هذا الكتاب المدهش والقيّم بحق؟ تبدأ الرواية بشكل غريب للغاية، شخصية [خصيّ] يحكي علاقته الكونية مع المجتمع الذي يعيش فيه، تبدأ بوردة سُرقت من عاشقها، وبرجلٍ ذهب إلى السجن لأنه تعشّق امرأة لم يكن يجب عليه أن يعشقها. تبدو شخصية عُثمان في الرواية تسجيلا للطرف البسيط الطيّب من الإنسان المعتاد، ذلك الذي يخفي سرّا، والصديق يعرف هذا السر، وعلى الجانب الآخر قام الكائن الروائي في الكتاب برسم الشخصية الأخرى الأهم في الرواية والأكثر رمزية شخصية [مرزوق] بالكثير من الحكايات التي تحيل القارئ إلى ما هو خارج الكتاب. هل تفهم شعورا أن تقرأ رواية وأنت فعليا تقرأ كل شيء خارج الرواية؟ هذا ما فعله الخطاب المزروعي بطريقة أنيقة للغاية. ثمّة أشياء كثيرة لتقال، ولكن الخطاب لم يقلها، وهنا يكمن الذكاء السردي الذي يجعل خيال القارئ مساهما في حبكة الرواية، وفي فهم الإشارات الرمزية التي تحفل بها الرواية. عالم الرمز في الرواية يبدأ من الصداقة، ومن العلاقة مع الأم، هذه هي الثيمة السيكولوجية في الكتاب. التفاوت بين القصتين يجعل القارئ في حالة حيرة بعض الشيء، تعمد الكاتب ذلك، أن ترى كل إنسان بمرآة الآخر، يبدو تأمل الرواية معقدا في البداية، ويصبح سهلا ثم يعود للتعقيد، كل هذه الرمزية تقود إلى ماذا؟ صديقان يطعمان الطائر الذي كان هو بطل الرواية بلا منازع. يتمثل لك مصير اثنين من البشر، وهو مصير بائس ومحزن للغاية، حياة تُختصر في لقاء يبوح به اثنان من الناس بما اتخمت به ذاكرتيهما من أحداث، يبدو التباين السردي بين قصة كل بطل وآخر أداة أخرى من أدوات الكاتب، لا الروائي، الكاتب لم يكتف بإحالاتٍ تعود إلى الحياة الحقيقية، ولكنه أيضا تبرّع للقارئ برصيد آخرٍ من ما كانت عليه المشاعر ذات يوم في عمان. أستطيع أن أقول أن مثل هذه الرواية الصغيرة التي لم تتجاوز الثمانين صفحة قد حازت على دهشتي، وثمة جانب لطيف في هذه الرواية لا يمكن أن نغفله، وهو الربط الذي يمكن أن ينشأ بين القارئ وبين قصة الغراب، ثمة رمزية تربط عثمان ومرزوق، فالغراب في جزء من تجلياته منقذ، ولكنه في جزء من تجليات البطل المقابل معذب، في الوقت نفسه يحمل الحدث أكثر من مغزى وأكثر من إحالة إلى حالة معقدة من المصير الوجودي، كيف يمكن للأبطال في الوقت نفسه أن يعيشوا مأساة تنقذهم؟ وأن يجدوا اليأس في قلب ما يحبون. أصعب شيء بالنسبة لي وأنا أكتب عن هذه الرواية هو الحذر الشديد ألا أخرّب على القارئ الأحداث، وهذه قيمة مضافة إلى هذا الكتاب الذي يستحق أن يقرأ للمرة الثانية فقط لتتبع أثر النهاية وكيفية فهم شخصية [مرزوق] بعد الكشف عن الحادث الأكبر الذي غير طفولته، هذا الحادث الذي ترك أسئلة معلقة أمام القارئ، والرابط الذي كسر كسرا شديدا توقعات القارئ، ولا سيما ذلك القارئ الذي توقع نهاية معتادة لرواية تبدو من الخارج واقعية للغاية. كتاب الخطاب المزروعي هذا يحفل بتقنيات القصة القصيرة، ويحفل أيضا برمزيات الكائن المفكر، ترك الخطاب المزروعي الأفكار تنطق من خلال الأبطال، وعبر تقنية [الغرس] تولى التهيئة للنهاية غير المتوقعة، وعلى عكس الروايات الكلاسيكية، فإن الغرس [وهي تقنية وضع معلومة تهيئ لحبكة قادمة] تستخدم [لتبرير] النهاية، إلا أن هذه الرواية فعلت العكس، كل ما مارسه السارد من غرس مبكر في جسد الرواية كان لخداع القارئ أن كل شيء سيسير بالطريقة نفسها، [طبيعيا]. تمر صفحات الكتاب، ومع التشويق العبثي الذي يستخدمه الكاتب، تصدمك النهاية في الصفحة الأخيرة، لتجد أن كل الذي مررت عليه وكل الرمزيات التي كنت تحشدها في رأسك قد أصبحت كلها هباءً منثورا، وأن ذاكرتك أنت، ذاكرة القارئ أصبحت تعيد قراءة الكتاب مجددا، ولكن هذه المرة من الذاكرة. سعيد للغاية أن كاتبا عُمانيا طرق هذا الباب التجريبي الواسع في الكتابة السردية، وأعتبر هذا الكتاب من أجمل الكتب التي قرأتها، والتي تبدو لك وأنت تخوض صفحات الكتاب محيرة بعض الشيء، حتى تجد أن الكاتب وضع كل رسائله الضمنية والواضحة في العقد الكبرى للإنسان البشري. تناول قضية الأم في الكتاب، ووفاتها كان الخدعة الكبرى التي استخدمها الكاتب، أمام من؟؟ أمام القارئ المحتشد بالتوقعات، التي تخالفها الرواية كلها .. إلا التوقع المبدئي المليء بالأمل أنك أمام كتاب جميل، وهذا هو التوقع الذي لم يخب. كما فعل الكاتب، فعلت في الكتابة عنه، كل هذا سيكون له أكثر من معنى أيضا عندما تبحر في صفحات الكتاب الثمانين، عندها ستجد نفسك مرّة أخرى أمام صدمة ذاتية كبرى، أمام سؤال كبير: كيف استطعتُ أن أؤمن أن كل شيء طبيعي وواقعي في هذا الكتاب؟ ولكي تجيب على هذا السؤال .. عليك أن تقرأ الكتاب ..

عودة إلى المدونة/الكتابة

بعد انقطاع أكثر من عامين، أعود لمدوننتي-قبر في سماء- ولقبري المعلّق في سماء الكلمات. ناثراً ما تبقى في ذاكرتي من عوالق الحروف، محلقاً في سماوات لا تتوقف عن الاتساع.

الأربعاء، أغسطس 20، 2014

الثلاثاء، أغسطس 12، 2014

عودة الحياة


مرحى أيتها الحياة... ها أنا أعود حياً تنكيلاً بالغياب الذي اختطفني فجأة

الأربعاء، مارس 21، 2012

الكتابة ملاذ الكائن





البحث عن اللاشيء .. المغاير/المتمرد/الدهشة المفرحة للروح، كنت أحسبها لعبة؛ لأنها كانت تشعرني بالأمان كما منحتني التعبير عن ما حوالي من كائنات وبشر وأمكنة.. القرية/الوطن/الأم.

أنها خلق اللاشيء،تخيل العالم بصورة أكثر سعادة والانتقام ممن نغصوا علينا الحياة.. بداية من البيت وانتهاء إلى الآخر البعيد المجهول.

بداية تلمس الأشياء / البحث عن الحقيقة؛ الحقيقة/الرغبة..
الكتابة البحث عن الملاذ الآمن والتنزه في غابة السرد ( على حد قول امبرتو ايكو) . إنها اصطناع الحكاية للتسلية من الملل؛ ملل المكان الرتيب ومعجم الكائن البسيط والمحدود..
الكتابة الأدبية لا تقول الحقيقة أبداً ودائماً ؛ كما أنها لا تكذب قطعاً.
إنها اجترار الذاكرة / الطفولة/الشخصيات الغريبة، والزج بها وإعادة تمثيلها على الورق ، بمعنى خلقها في صورة أكثر قرباً وأكثر دهشة ،فالكتابة هي تقبيح الجميل أو تجميل كل ما هو قبيح وما بينهما.

الكتابة عن ذلك الطفل البعيد الذي كان يشبهني ذات زمن ثم غاب في غياهب الذاكرة ليخرج كيفما شاء ووقت ما يشاء هو ذلك ..
أنه الساقية التي تروي الشجيرات وتأثث الحديقة الصغيرة المفتعلة في الخيال لجعلها أكثر إزهاراً وفائدة، إنها استنبات الميت والذابل واقتلاع المؤذي/ الطفيلي، الغير مرغوب به وفيه.

البحث عن الموسيقى النائمة على الجدران المتهالكة وبعثها ،الموسيقى الناعسة على أشجار النخيل وأشجار الليمون المزهرة.
كما أنها – أي الكتابة ، تمجيد لفعل الخالق في مخلوقاته، شكر الرب العظيم؛ حتى في بعض ابتلاءاته..

جاءت الكتابة كفعل حب عميق يصل العظم ويفتت التكلس الروحي المتراكم بفعل الزمن والرضات المتكدسة على الجسد الضعيف وصاحبه الجبان، ومحاولة ترميم الطفولة المرة/الحلوة بالذاكرة الموجعة..
بصوت المؤذن لصلاة المغرب ونزول الملائكة والسكينة ( كما كانت تؤنبنا الأمهات والجدات والأخوات) لأصغر فعل حركي أو صوتي يصدر منا، فنضوي إلى البيت مع الطيور والحيوانات ؛ الكتابة أنها تذكر رائحة اللبان ليلة الجمعة المقدسة بخور الملائكة ( كما كان يقال لنا ).

تمضي الأيام ويسحبنا الزمن إلى دهاليزه لتنمو أجسادنا وعقولنا ورجولتنا .. لنخرج للواقع الحقيقي المر للكائن السعيد، فتتعقد الحياة لنكتشف مبالغة الأمل/ القاتل، ما هي إلا كذبة الممارسة المتخيلة، لتحل الكتابة كبلسم لن يكون فعالاً ومفيداً في كل المرات ؛ الخائبة والمخيبة والخبيئة..
ولكل مرحلة حروفها وأسلحتها كما أن لها أعدائها ومحبيها الجدد..
حتماً لن يكون هناك مكان أكثر ملاذاً ودفئاً من الكتابة وعواملها القرائية المستمرة.

الأحد، فبراير 12، 2012

عناوين محمود الرحبي







أذكر أول مرة التقيت فيها بالقاص محمود الرحبي في 25/3/1998م، في النادي الثقافي ؛ وقتها اهداني مجموعته القصصية الأولى (اللون البني) والصادرة عن دار المدى بدمشق في نفس ذلك العام.
عندما قرأتها أدهشتني لغتها والتقاطات عينه المبدعه، وأسلوب معالجته للحدث، وأول ما لاحظته أن عنوان المجموعة لا يتضمن أحد النصوص في داخلها – كما جرت العادة عند البعض. ولاحقا أعدتُ قراءتها عدة مرات ، وأثناء ما أقيمت أمسية احتفائية بالمجموعة وكاتبها في النادي الثقافي ، وجهتْ له عدة أسئلة ؛ كان من ضمنها: لماذا اخترت أن يكون عنوان المجموعة "اللون البني" ؛ رغم أنه لا يوجد نص داخلها بهذا العنوان..؟. ورد محمود قائلا: ليس بالضرورة ذلك ، إن هناك مؤلف عماني له كتاب في الطب وعنوان الكتاب: "فاكهة ابن السبيل"، والعنوان قد لا يعكس للبعض المضمون الداخلي لما تحتويه مادة الكتاب..
والآن بعد هذا البعد الزمني بين تلك المجموعة الأولى (اللون البني) والمجموعة الأخيرة(لماذا لا تمزح معي؟)؛ يستمر محمود حاملا رؤيته الخاصة والمتميزة في نفس الاتجاه..).
وبذلك يجعل محمود من العنوان ( عنوان المجموعة) نصا يقول فيه ما لم يقله.. برؤية إبداعية واعية بما يفعله – الاستمرار دليل قاطع!.
ومجموعته الأولى اللون البني من المجاميع القصصية المتميزة، واعتبرها نموذجاً راقياً ورفيعاً في أدب القصة القصيرة العمانية الحديثة. وعندما صدرت المجموعة؛ كتب عنها الكثيرون وأذكر منهم القاص محمد اليحيائي في جريدة عُمان ( الملحق الثقافي- عمان الثقافي في تلك الفترة ) في عموده:لزوم ما يلزم قائلا: لم أحسد أحداً من قبل كما حسدت محمود الرحبي على مجموعته القصصية اللون البني ( بتصرف). والحسد الذي ذكره محمد هنا على ما أظن ويتضح لي أن ما ذهب إليه اليحيائي مشابه ما قاله الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عندما قدم لرواية "الجميلات النائمات" للروائي الياباني ياسوناري كاواباتا ، قال ماركيز: الكتاب الوحيد الذي وددت لو أكون كاتبه هو " الجميلات النائمات" لكاواباتا – وقد فعلها ماركيز بعد سنوات من ذلك وأصدر روايته "غانياتي الجميلات" وفي ترجمة أخرى عاهراتي الجميلات.
ثم أصدر محمود الرحبي مجموعته القصصية الثانية " برُكة النسيان" والتي صدرت ضمن مشروع مسقط عاصمة للثقافة العربية لعام 2006م عن وزارة التراث والثقافة ، وكأنه أراد أن يغترف من ذاكرته وتجربته الانسانية قصصاً ومشاهد لحيوات من بركة النسيان الحياتية !.
وفي هذا العام صدر له مجموعته الثالثة " لماذا لا تمزح معي؟"، والتي صدرت عن دار أزمنة بعمّان.
ويذكرني محمود بقلة إصداراته وأهميتها ( رغم بداياته المبكرة في الكتابة والنشر) بالقاص السوري ابراهيم صموئيل، والأخير لو انتزعت كلمة من جملة ما من إحدى قصصه لأنهارت القصة وما فيها ، وهذا يدلنا على حسن الصنعة والإتقان دون وضع لإحتمالات الحشو والإسهاب.
كذلك محمود الرحبي يكتب بعين متبصرة بصيرة، ومتمكنة مكينة، ومتسائلة مدهشة؛ كما في جانبه الإنساني يخجلك بتواضعه الرفيع، ودماثة خُلقه، وعندما يحضر يستمع أكثر مما يقول؛ يحضر بكاريزما خاصة به.
وعندما نقرأ عناوين قصص محمود الرحبي مجتمعه تخلق لنا قصيدة هايكو مدهشة كما في مجموعته الأولى " اللون البني" فيما لو حاولنا أن نفعل ذلك، ستأتي هكذا:
الحب الأول
قمر السكران.
* * *
مشهد الفجر
مشهد الغيمة.
* * *
عين الذبابة
أفعى الغروب.
* * *
حمى الغريب
المجنون.
* * *
سقف العرين
ركلات متوالية.
* * *
ملهيات الضجر
دائرة الواحد.
* * *
الفراغ
يوم واحد.
* * *
البيضة
الرائحة.
* * *
الفضيحة
دكاكين رمضان.
* * *
الحذاء
دون عين.. دون لسان.
* * *
عناوين محمود الرحبي..
تريد أن تدمينا؛ تساؤلاً وخيالاً، وأن نقول فيها وعليها ونتقول فيما لم تقله.. الصمت بدهشتها أفضل؛ مخافة أن يضحك محمود في داخله ويقول:
لم تنجح فيما أرمي إليه!.

الأربعاء، يناير 18، 2012

كوقع حافر غزالة على الرمل




أشيائي المسحوقة بعناية
التي تركتها .. ليلة أمس
على حانة الشك ...
لعلي .. أقول لعلي :
لن أرجع أذكرها مجدداً !.



* * *

يا إمام العصاة .. شيطان الذكر هذا الحرف ؛ المعلق بين مشانق الكلمات أكان لا بد من البرزخ الذائب بزئبق الحكاية ، هذا قبر أم نار وجهكِ يا حاملة مشاعل الروح ، اتركيني أعبر الليل الجنائزي ؛ كبومة نتف ريشها الرملي .
فيما هو يحدّثها، كان الداخل إلى الحكاية يغوص في الحروف ؛ كوقع حافر غزالة على الرمل ! ، بينما هي تنظر إلى سوءتها لعل طائر البقاء يذهب ذات لحظة وينتحر على موانئ ؛ لا زالت شواطئ الغياب تنحتها على رمل البصر .. آمين ، آمين يمر المطر غزيراً يذهب اليباس ويدر الضرع وينتصب العود ..! .

مقامة القرد ..يمر الفتى البض الساعدين ، مكتنز الشفتين ، أمرد كولدان الجنة ؛ يحمل إبريق القلب يسكب به العين على الجسد المهتز ، كروح تنتصر للبقاء ، بينما قرد صغير بحجم قبضة اليد ينفلت من رباط صاحبه يصرخُ ، فيما الصوت يرجع صادعاً كارتطام حجرين صلدين .

لون الماء المسكوب في ثناياكِ لا زال يجري بين كريات الدم المختمرة بالجنون والحب وخمر اللحظة ، لا زلتُ أبحث عن لون الماء بين أصابعكِ الشمعية ، وصدركِ المشرئب ، الذي طالما أبعدني بنفوره .. أيتها القاسية التفاصيل ..

فيما خلفته رياح القيامة ، نبشته قيامة الريح كان لا بد من الريح لتعبث بثيابنا المحترقة ، لترفرف بالهزيمة ، هذا النائم لا توقظوه الآن ، فلقد نام من الموت ، نعس على ساقية الفلج الملوثة بحفاضات البامبرز(pampers) . كانت أحلامه قريبة من التراب ، وصوت يجلجل في داخله ؛ مخافة أن يصحو ولا يجد نفسه ذات صباح ناعس .

باب النون الأول ذاك الباب الذي يومئ بالخروج ، كذبة عابرة كمدينته التي سكنها عنوة ؛ أظلافه مصنوعة من أشجار يانعة كانت تترنح بالريح .. ألا تسمعون صرير الباب يئن ؛ يتذكر وقفة أمه الشجرة ، وهي ترضع الحنان من الأرض ، بحلمة الوطن .

باب النون الثانية .. نورس مدهون ببياض فاقع ، كان النورس يجيد امتطاء الأمواج ، فيهزمها ؛ غافله البحر ذات غروب ودهنه بزبد البحر ، لا تقتربوا كثيراً من البحر قال النورس ، لا تكترثوا لكلام النورس ، قالها مسافر عابر ؛ نسي وطنه ذات ليل حالك .

حكاية المشي .. ذات ليلة ، كنت أدرب رجلاي على المشي ؛ في مقبرة قديمة ، سحجتُ شواهد الارتقاب التي كنتُ أخافها أن تنبجس دفعة واحدة ، رأيت على ضوء القمر المتسلل بعناية من وراء جبل صغير ، فراشة قابعة على شاهدة ، اقتربتُ أكثر ، لمستها بإصبعي السبابة فتفتت جسدها اليابس ، ركعتُ لكي أجمعها ، قرأتُ على الشاهدة مكتوب : مات قبل أن يتقن المشي في الطرقات الضيقة .

أنشودة الأبواب .. يا من تقفون على الأبواب أضلافها خدعة .. لا تلمسوها ، حتى لا تصر من وجع الدفع ؛ فوراء كل باب ألف باب ، أجساد تتلوى من لذة الوجع .
رأيتُ عجوزاً قارب السبعين يدعص بإصبعه ؛ التي تشبه رأس ضفدع ، يدعصها على وقع غزالة في الرمل ؛ فيشرخ الخوخة المزينة بزغب أحمر ، فينبجس الدم ، ليكحل به عينيه المرمدتين .. ليرتد بصيرا . خفت من وراء الأبواب ، كانت الطفلة تتلوى من اللذة فيما حلمتا نهديها تستنفران شبقاً ، كان نهداها منتصبين كقرني ثور ، صرّ الباب كثيراً هذا الليل ، بينما أذنايّ تريان ما لا تراه العين ، أخذت سناجب الوقت تقرصني حتى تنمل جسدي المنهك ..

أفيقوا يا عباد الله (جاء الصوت من بعيد) اتركوا هذا الخوف المنهك في أرواحنا ، دعوها تتنشف بضوء الشمس ، الغارق في العتمة ، مدن ضاعت في ثنايا القلب المشروخ بعناية .. مدني التي بنيتها قروناً ، صارت تسيح بماء الوقت وملح الأيام الذائب في زئبق الدم ، رائحة الصدأ الحديدي يزكم الأنف ، وأنا أفلي قمل الوجع من (رويسي) المثقل بالقمر الذبيح ، ما بالي أهرب من وجع إلى آخر !.
من هذا الذي يلتفت كثيراً ، ولا أراه ؛ يرسم مفاتيح أبوابي المغلقة في دمي ، لم أحظى منه سوى .. بصراصير توقظ رغبة البكاء ، لا يهم .. لا يهم أمضوا جميعكم ، وسأمضي ، أمهر أشيائي برائحة المطر وبعرق أنثى بجانب البحر .

الأربعاء، يناير 04، 2012

ثلاث صور








ثلاث صور يملؤها كائنان ، الّلذان يملآن الهوة السحيقة بين معنى الأشياء واللامعنى، يحاولان سد الفجوة العصية على التوقف في الاتساع ؛ لطبيعة في الطين المطبوخ في فرن الإله ،كل شيء جامد ما عدا العينين تتحركان في البحث عن زهرة الذنب الأولى التي اختفت بفعل فاعل!.

الصورة الأولى

على يمين الصورة تأتي العصفورة الأكبر، بؤبؤا عينيها مرتفعان، رغم أنها تنظر بارتفاع ساقط وكأنها من علو نتيجة أنها أنزلت رأسها قليلاً ، قََصة شعرها بالكاد تلامس جفنيها الرقيقين، شفتها السفلى تَضغطها الشفة العليا لتخرج صورة فمها الذي يشبه الجرح ؛ كفعل استهزائي بما يحدث أو لماذا يحدث ؟، يدها اليمنى تتكئ عليها بظاهر الكف ، وكأنها تخفي كفها المشوه الخطوط ، الخطوط الشاذة على القاعدة الطينية وكأنها تدرك أن هناك خطأ ما حدث! اليد اليسرى تختفي بينها وبين العصفورة الأصغر فلا يبين منها سوى ثلاثة أصابع ونصف ، الأذن اليمنى غابت عن سمع الصورة بينما اَرنبة أذنها اليسرى تختلس الظهور أسفل شعرها القصير .

وضع الجسد في الصورة غير متهيئ للمؤامرة التي تحاك لالتقاط للصورة، فيجئ الساقان ملتفين في أطرافهما بفعل علو الرِجل اليمنى على اليسرى ، الرِِجلان اللتين يمتطيان حذاءً بلون البحر ، تنحسر فردة السروال القطني على الرِجل اليسرى إلى ما بعد الركبة ، ويصل إلى منتصف الساق في الرجل اليمنى وكأن الوردة الخماسية الأوراق تصر على المشاركة ببقعتها السحابية.

ينبسط القميص بلون البراعم الصغيرة بأذنيه على كتفيها ؛ المساوي لهما بداية الزر الأول، والذي يشاركه زران آخران في التبرك بالجسد العصفوري الأكبر.
على يسار العصفورة أو حتى على يسار العصفورة الأكبر تتوثب العصفورة الأصغر ويظهر توثبها من أرنبة أنفها الكرزي ، شفتان بلون الكرز...


الصورة الثانية

في نفس المكان يقعيان لكنَّ بصريهما مفترقان ، العصفورة التي على اليسار تتكيء بيدها اليسرى فخذها الأيمن .
على الكرسي التي اعتمرته الزرقة،وبنقش مرجاني.ضاغطة على أصابعها حتى منبتهما،ما عدا الإبهام فهي هاربة باتجاه الجسد. اليد اليمنى وضعت أعلى الركبة بقليل. الإبهام مرة أخرى منفصلة الإتجاه عن باقي الأصابع؛التي لا تبان منهما سوى السبابة والوسطى، والاثنتان الأخريان؛اختفتا بين فخذي العصفورتين.
الرِجل اليمنى لا تتساوى مع اليسرى في مستوى الارتفاع؛فاليمنى ممتدة إلى الأسفل بشكل بارز، ويبين ظاهر القدم بشكل عمودي.

العصفورة الأولى التى تقعى على يمين الصورة،سارحة ببصرها باتجاه أفقي، وكأن شيئاً ما يحدث هناك!.
تتداخل أصابع يديها؛متشابكة،ما عدا الإبهامين فهما غير متشابكين؛بشكل قاطع.
تضع ساقها اليمنى على اليسرى من الأسفل، من منبت القدم؛لتظهر القدم اليسرى بشكل خجول، لا يكاد يظهر.

الصورة الثالثة

العصفورتان تكادان تتفقان على أن حدثاً ما؛يستحق المتابعة؛فنظرهما مصوب إلى أمام الصورة نحو الجهة اليمنى،ولكن النظرتين مختلفتان،فالعصفورة الأولى في اليمين،تضغط على شفتها العلوية بأسنانها؛دون أن تظهر الأسنان.
بؤبؤ العين اليمنى ليس في وسط العين تماماً،فهو يميل إلى اليسار،عكس بؤبؤ العين اليسرى؛فهو في المنتصف،مائلٌ إلى الأعلى. الغريب في الأمر أن العصفورة الأولى في اليمين تتكيء بظاهر يدها اليمنى، وتخفي يدها اليسرى،فلا يبين سوى ظفر الإبهام.

العصفورة الأخرى في اليسار،قبيل أن تحاول وضع كفيها على ركبتيها؛جمدت الصورة!،لتظهر كفها اليسرى نصف منبسطة أعلى الركبة. بينما كف اليمنى قد أمسكت جيداً بصابونة رجلها اليمنى.

نظرات العصفورة التي على اليسار توحي بحزن أقرب إلى البكاء،وذلك من خلال شفتيها المزمومتين وعينيها المبهورتين بفعل الحدث.
في هذه الصورة (الثالثة) شيء واحد اِتفقت عليه العصفورتان؛نظرتهما المرتابة،تجاه الحدث الحقيقي في الأمام.

الثلاثاء، ديسمبر 20، 2011

قراءة في لعنة الأمكنة للقاص الخطّاب المزروعي


* نورالدين بقالي





عرفت القصة في عُمان نمواً مطرداً من جراء تحولات البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عرفتها البلاد منذ فجر النهضة الحديثة، والتطور الحثيث ذي الإيقاع السريع منذ سبعينات القرن الماضي إلى الآن في كل المجالات .

ومن خلال مطالعتنا لمجموعة الأديب الخطّاب المزروعي " لعنة الأمكنة " نتيه في عالم من الرُّؤَى يمتزج فيها الواقع بالخيال والوهم بالحقيقة ، وتنهض الحياة متثائبة خارج أسوار الموت لتنفض عنها غبار العبث بينما تظل الأمكنة رغم اللعنة التي وصفها بها الكاتب هي الدفء السرمدي العالق في خبايا الذاكرة .

الرؤية المأساوية للكون عند الخطّاب
" كنت أبني بيتاً صغيراً من الرمال ليسكنه النمل ، ولما نمت قليلاً رأيت رجالاً يلبسون ثياباً سوداء يحنطوني في ذلك البيت ، فهرولت تجاهه وعندما صحوت لأهدمه لم أجده ، بكيت ... ومن ثم بصقت على العالم " (صفحة 13 )

في هذه الإحالة الزمنية الضاربة في الماضي من خلال الفعل الناقص " كنتُ" يعود بنا الكاتب إلى الطفولة السعيدة المليئة بالحب والبراءة ، حيث يبني الطفل مسكناً للنمل ، يغفو سرعان ما يرى رجالاً بثياب سوداء يحنطونه في ذلك البيت . هكذا يتدخل الكبار في عالم الطفولة فيفسدون كل شيء ويعبثون بسعادة الأطفال الأبرياء ، يفزع الطفل ويحاول أن يهدم بيت النمل السعيد لأن الكبار حولوه إلى قبر ، لكن الطفل لا يجده ، فيبكي كل شيء يتحول إلى عدم ، ومن خلال هذا العدم تنبثق الكراهية على الوجود برمته فيقف الطفل ليبصق على العالم ، ومن خلال ارتباط المكان بالموت في مخيلة الكاتب يتولد لديه الإحساس بالفراغ والضياع ، ومن ثم يتحول الكون إلى شيء تافه لا قيمة له لما يحمله من يتم الظلم والقهر والاستبداد .

يستحضر الكاتب الموروث الثقافي: عروة بن الورد/امريء القيس/مالك بن الريب؛ في دعوة للبكاء على القرن التافه ، غضب عارم تفجّره الكلمات وصراع مرير مع الموت وضده من أجل البقاء ، في شكل فني تتداخل فيه الخاطرة بالمذكرات لتشكل نسيجاً نثرياً أدبياً بقالب يترجم تجربة الكاتب وعلاقته بالأمكنة ورؤيته القاتمة للوجود ، ذلك أن العناصر الفنية للقصة لم يعد يهتم بها كتاب القصة الحديثة كالخطاب المزروعي وغيره ، ممن يحاولون التجريب ، لأن شروط القصة القصيرة لم تعد ملزمة بل يتم تجاوزها بحسب درجة وعي الكاتب بالذات والموضوع ووحدة العلاقة بينهما

الفضاء والأمكنة
إن استعراض معجم الخطاب المزروعي في مجموعته القصصية كفيل أن يسلط الضوء على ماهية أمكنته وفضاءاته :
( البيت – المراعي – التلة – المقبرة – اللحد عظام – الموت – المرارة – الدماء المتخثرة – رقصة الموت – الرمال – الصحراء الغراب – الكتابة على الجدران )

من خلال هذا الحشد من الكلمات التي تحملها دلالة سلبية تعكس حالة الكاتب النفسية وإحساسه بالموجودات من حواليه في محاولة يائسة للخروج من ضجيج الموت إلى صمت الحياة ، نتبين أهمية الأمكنة في مخيلة الكاتب ويصبح الزمن ذا وتيرة ممتدة من العصر الجاهلي إلى الآن ، وهي وتيرة استبدادية تسلطية عبّر عنها الأديب بلغة ساخطة وأسلوب مثير يعكس في مجمله الواقع المرير الذي تعيشه الأمة العربية .

من هنا تأتي ( لعنة الأمكنة ) لتحمل وعياً قومياً وبعداً حضارياً وإنسانياً ، ولتبرز على الساحة الأدبية العمانية كاتباً يمكن اعتباره من جيل الرواد في كتابة القصة الحديثة في عُمان .



ـــــــــــــــــــــــ
* كاتب وشاعر من المغرب

الأحد، ديسمبر 18، 2011

صالح العامري..الغارق في لجة النبع




صالح العامري في الحياة، المبطن بالماء..المنساب من ريح شناص،المقذوف إلى الحياة بصوت الحلم المائل جهة الأرض...

يعيش، كما ينبغي هو أن يعيش..

نهما باللبن والموت والعمر والمحو...

هاديء/قلق/حكيم/فوضوي بعناية..حاضر حاضر دون كلام،يراقب المشهد،وكأنه ينتظر الإنفجار العظيم!.

ينبثق صوته من المذياع؛كخرير الماء،باحثا عن كلام الموتى؛العقلاء..لإيقاظ الأحياء..

كان علَيَّ منذ أمدٍ

أن أربّي ثلومي

أن لا أفَرِّطَ في

أديرة

الليل

في عام 1996كنت على بعد خطوات وأسلم روحي للطائر الحديدي،هارباً من قيظ المكان والكائن؛فجأة انبثقت الفكرة بعد منتصف ليلة مدلهمة السواد.قلتُ:سأذهب إلى ظفار- حيث المطر والعشب. اتجهتُ إلى كشك كتب منزوي في ركن المطار،حطت يدي على ديوان الشاعر صالح العامري، مراودات..

من هذا الصالح؟

ماذا يراوده؟

يومها عرفتُ،صالح العامري.

أذكر أني بعد أن انتهيت من قراءة،الديوان ،انفجر شريان في داخل رأسي،وأخذت بكتابة شيء ما بين أوراقه- حاولتُ جاهداً أن أجد الكتاب بين كومات كتبي المعثرة لأطلع الآن على ما كتبت ولكني فشلت.

وصلتُ ظفار وأنا فرح.. الماء والخضرة ومراودات!.

أقبضُ بأسناني

غيمةً لاهثةً

منذورةً للإبادة

أمسكُ بكلتا يديّ

سُقُفاً من

دُخان مطّاير

رجلاي أودعهما في

الضفة البعيدة

لهما قارب الوحشة

وزبانية المنفى...

***

دخلتُ مقهى الحرية(1)،منتظراً عبدالحكيم(2)..

دخل حكيم وابتسامته تتدحرج أمامه.

- ازيك يا مزروعي..

- ....

- شفت صالح..

- من صالح؟

- صالح العامري. هو هنا في القاهرة بأأله كم يوم،دلوأتي اييجي أنا ألتله إنك هنا..

- سأكون سعيداً..

دخل صالح ولم أكن ساعتها رأيت وجهه من قبل.

- أهو صالح..

كنت أشارك في الحديث باقتضاب- لعنة الإرتياب. واسترق النظر إلى صالح..يخرج كلامه بوشوشة هادئة؛كموسيقى مصعد مهجور!.

ذهبنا إلى الليل نلاحقه في قاهرة المعز..وانهيناها بكشري- لم يحذرني حكيم من الصلصة التي وضعت في كيس صغير شفاف. احترق فمي وجوفي..

- هو أنا نسيت أأولك إنه الشطة حارة- بعد ماذا يا حكيم!.

أشار عليّ صالح أن أبيت في الشقة التي استأجرها في الدقي. اخترق البرد عظامي،صرت ارتجف بشكل لاإرادي،والسرير الذي نمت عليه لم يكن عليه لحاف.. اتذكر أني نمتُ ولم أخلع حذائي حتى يدفئني ولكن لم يفد ذلك في شيء ،نمت على الأرض ووضعت المرتبة فوقي؛بعد جهد نمتُ..

بعد أيام اتصلتُ بصالح بأني سأذهب إلى الإسكندرية،قال أنا ذاهب اليوم..سأنتظرك،وأملى عليّ العنوان..لا تنسى مصطفي كامل!.

كان عود منير بشير؛يجرح السكون..

كان لدى صالح مسجلة موصول بها (ميكرفون)،في النهار يسجل مقابلات مع كتّاب وأدباء،وفي الليل ينزع(الميكرفون) ليستمع إلى موسيقاه من أشرطة يحملها أينما ذهب..

في أحد النهارات؛بعد أن تواعدنا أن نلتقي في مقهى قريب من شاطيء الإسكندرية..أخذ صالح ينفض الغبار عن ركبه ويهمهم متذمراً من شيء ما،سألته:ماذا حدث؟ قال: أنه سأل عن أحد ما كان على ما أعتقد يحرر مجلة أدبية تعنى بالمكان – خانتني الذاكرة لأن أتذكر المجلة وصاحبها.أشار عليه شاب بأن يأخذه في دراجته النارية،وأدخله في أزقة ضيقة،ولضيقها أخذت ركب صالح تحك في الجدران. ضحكتُ،ثم أخذ بالضحك ..

أشار إلى عمارة بيضاء-أظنها فندق:

- هنا عاش لورنس داريل..

- صاحب رباعية الإسكندرية؟

- نعم...

ومنذ هذي اللوحة

سأكون تاجر لُبانٍ

بين ظفار

وحتشبسوت

ولن أكتفي بعنقٍ

واحد

كان صالح قد جلب معه مخطوطة ديوانه الأخير،خطّاط السهو،وأنا جلبت معي لعنتي..

كنا نتشاور في النشر،فقال:أشار عليّ حكيم أن ننشر في دار الجمال والحب-ليتها كانت كذلك!. قلتُ له: هو أشار عليّ أيضا..

التقينا،وأهداني خطاط السهو..ثم مد يده، وقال:إعطني الديوان ففيه أخطاء كثيرة.. دعني أصوب نهدا عائشة!.

ليس لدي ما أقوله عن صالح فلقد قال:

انتهيتُ من ال

غ

ر

ق

الآن أفهمُ الجميع

(1) مقهى الحرية: في ميدان التحرير بالقاهرة.

(2) عبدالحكيم: الروائي المصري عبدالحكيم حيدر.

(3) صورة صالح العامري في الأعلى من الأرشيف الخاص للكاتب(تصوير الخطاب المزروعي في شاطيء الإسكندرية)

(4) المقاطع الشعرية الواردة في المقال ،للشاعر صالح العامري

الثلاثاء، ديسمبر 13، 2011

القَبْــو

"من الظَّلام جئت وإلى الظلام أعود"

سعد الله ونّوس

النهاية

حاولتُ تحريك رجليَّ، وكأني فراشة توشك أن تخرج من شرنقتها. غمرني النور.. فصرخت. سائل مخاطي، دم ذو رائحة صديدية، بول اختلطت به. وقفت على رأسي وأنا أشاهد العالم. لفوني بخرقة. أحسست بألم لذيذ يجمع عظامي الصغيرة. خُدِعْتُ؛ لم أكن أعلم أنها النهاية.

القبو

أشعلت لفافة بيضاء كجناح النورس حملتني إلى مرافئ مدن جميلة لكنها فقيرة. مددت يدي وأنا أمرُّ بين البيوت القديمة. خدشتني حصيات نتأت من الجدران بفعل المطر والزمن المعطوب. تذكرت المجنون: أمرُّ على الديار!.

غمست يداً في ساقية الفلج.. غسلت وجهي من بقايا قبائل علقت به.

- قوم صلِّي - قال أبي.

رمقته بنظرة خاطفة. صمتّ.

ركضتُ. سمعت صوت أبي يُلاحقني:

- ما عليك الملعون، الكلب

أنا الكلب أم هؤلاء البشر؟. هربت إلى المقبرة.

صرختُ: اقتلني... لا أحبُّ هذه الحياة الملعونة. رجع الصَّدى قاسياً ضبابيّاً. عوت الكلاب من ناحية الجبل، وكأن تلك المخلوقات تسخر مني.

تمدَّدت على الحصباء حتى داهمني الليل. عندما فتحت عينيَّ رأيت النجوم تُراقِبُني؛ كعيني ذئب

سمعت صوت امرأة يقترب من المزرعة التي كانت على يميني. تيقَّنت أنه صوت زوينة؛ كانت تبحث عن دجاجتها التي لم ترجع مع الديك. جلستُ حتى لا تفاجأ بي. لم ترني المسكينة، أحذ صوتها يختفي كما جاء.

أشعلت لفافة، ورسمتُ دوائر هلامية. أخذت أُحوِّل المنظر إلى فكرة! حياتنا.. كهذه الدوائر الدخانية تتلاشى، ولكن سمعت المعلم صالح يقول: إننا سنبعث يوم القيامة، وسيُحاسِبنا ربُّنا حتى على التمرة التي نأكلها. قلت في سريرتي: لماذا إذن يأكل مالَ أبناء أخيه اليتامى؟. نفثت آخر نفس من اللفافة. بصقت على المعلم صالح. قرَّرت أن لا أرجع إلى البيت باكراً، لأن أبي سيُحاسِبُني: أين ذهبت؟ وأين صليت؟ ومن رافقت؟، وكأنه استخلفه ربه لمحاسبتي قبل الأوان.

كان المكان ساكناً. ما أجمل أن يتوحَّد الإنسان بنفسه!!!.

أحسست بخطوات تقترب مني، وشبح في الظلام يقترب مني. قلت في سريرتي: إن كان أبي سأركض إلى الجبل ليأويني..!.

كان الشبح القادم يدخن!. (هذا حتماً ليس أبي).

هاه.. حمدان.

- أكيد تحبّ وما قلت لي (خرج صوته متهكماً، أعقبه بضحكة ساخرة كصوته).

- أرجوك حمدان تعال غنِّ لي.

حملني صوت حمدان إلى مدن جميلة. صرت أحلق كفراشة تهوى اللعب بالنار -لأنسى ورطتي!.

* * *

- عبود ود سويدان كان باغي تستعجب.

- أعرفه كان جده خادم جدي.. إلين اليوم ما يقول السلام عليكم.

- عجب ما كذاك، تو يوم يتخرج من الجامعة.. يقولوا معاشه أكثر من خمسمائة ريال.

- انشا الله يعطوه ألف أيبقى ود سويدان كما هو، ما يرتفع أفوق يوم ما ينزل.

تسمرت تحت نافذة "سبلة الجماعة" وأنا أستمع إلى الحوار الذي يدور بين حمود وجمعه، بصقت. أشعلت لفافة، وواصلت طريقي إلى البيت؛ ليحترق هذا العالم، الغرب يقتسمون أراضي المريخ، ونحن نقتسم الناس؛ نبيعهم ونشتريهم، وكأننا في أسواق النخاسة.

البداية

كانت القرية تتهيأ لمضاجعة الليل، فأُشعل فانوس هنا وهناك. أدخلت زوينة دجاجتها والديك حتى لا يبيتان على السدرة ويأكلهما الثعلب!. ضحكات الصبايا تأتي مختلسة الأشجار من ناحية ساقية الفلج، وهنَّ يفركن أجسادهن الرُّخاميَّة البضَّة، ويتقافزن فوق بعضهن بعضًا غبطة؛ لأنهن استطعن أن يسبحن عاريات دون أن يراهن أحد… لأن الليل يُغطِّي الجميع، وحمدان الذي يستمتع بالمنظر الخلاسي وهو يمتطي أحد فروع شجرة المانجو أعلى الساقية، وضوء القمر يتسلَّل إلى تلك الأجساد السمكية، وهن يتقافزن فرحاً وغبطة؛ كان كل شيء يمضي بإحكام لولا أن صرخة دوت فهزَّت القرية!.

نزل حمدان مسرعاً دون أن يكترث بمشاهدة الصبايا أنه كان يراقبهن. رفع دشداشته بعدما تبيَّن له مصدر الصراخ، وأطلق ساقيه للرِّيح… إنه يأتي من جهة بيت صديقه محمد.

كانت خديجة تصرخ وهي تخدش وجهها، مادَّةً رجْليها وشعرها المنفوش فوق الجثة المسجاة أمامها…

وقف حمدان يزن المنظر في عقله؛ من هذا؟!. وهو لا يريد أن يخمن !.

لحظات حتى كان معظم أهالي القرية متجمهرين داخل بيت عيسى وخارجه. شق ذلك الجمع المعلم صالح بعمامته البيضاء. اتجه إلى الجثة وقلبها بكلتا يديه بعدما وضع عصاه على الأرض. رمقته عينا محمد الجامدتان.

- اذكري الله يا حرمة (قال المعلم صالح) مخاطباً خديجة، وأردف:

- عيسى.

تلاقت عيون الجميع وهم يبحثون عنه بينهم… صرخ حمدان وأخذ يركض متجهاً إلى تلة المقبرة. أخذ يصرخ ويمزق دشداشته ويمرغ أنفه في التراب كذئب تلقى رصاصة قاتلة. صرخ بصوت حتى أغشي عليه ولم يفق إلا على صوت ديك زوينة وهو يعلن منتصف الليل.

كانت خطوات رجلين تقترب منه تُبيِّن له أنهما حمود وجمعه يتهامسان بينهما:

- مسكين محمد دائماً يتشاجر مع أبيه.

- هذه نهاية كل واحد ما يطيع الله ورسوله!.

- المشكلة الحين ما كذاك.. خديجة أكيد ما رايحة تتحمل الصدمة بنْها المقتول إذا كان القاتل أبوه.

- مسكين محمد الله يرحمه!.

كانت خطوات الرجلين تبتعد وصوتهما يتلاشى. دفن حمدان وجهه في يديه وأخذ يبكي محاولاً أن يخرج من قبوه.

الأحد، ديسمبر 11، 2011

البُرتقالة ؛ بصيغة الغائب


ليلة تدحرج الحجارة

الحَجرة الأولى :

المسألة لا تعني الماء الذي سال في الطرقات ؛ ولا حتى الحكايات التي كتبتها .. الحكايات المنبثقة من غيب الحرف الذي يعصى عليك الخروج ؛ كحجة تستخدمينها لإحتجاجك على ما يحدث في النهار ..

الغيمة لا تهتم إلا من يتذمر من سقوطها عليه .

وحتى أكون صائباً، ولا اتحذلق على ما حدث ؛ ستكوني هذه المرة مستمعة لحكاياتك من لساني هذا.. – الخاصة والعامة – التي وردت في متن سِفرك ولعناتكِ والليالي التي مرت وأنتي تنسجين الحكاية وراء أخرى . إذا لن أضيف شيئا البتة ؛ سوى أني سأعيد صياغة ما حدث في تلك الليلة – الليلة الأخيرة- التي سقطت فيها الحجارة ؛ وتدحرجت على البيوت الطينية وأصبحت تسكنها بدل أهلها .. الذين أصبحوا ، في العراء وبجانب منابع المياه ، وتحت ظلال الأشجار العطشى ..

حَجرتكِ قبل الصياغة :

كان الليل بدأ ينسج خيوطه ، وكنتَ تعباً ، اقترحتُ عليكَ أن تنتظر قليلا ؛ لأني أعرفك جيدا بأنك كائن ليلي ؛ واقترحت عليك أن تأخذ علبة جعة من الثلاجة – رغم أنك لا تحبذها ، لأنك لديك حساسية منها – لأنك كما أخبرتني سيظهر على جلد كفيك وقدميك طفح ؛ بعد يوم من شربها ؛ لذا أنك تتجنبها وتفضل السكوتش لهذا السبب – لكنك على ما أذكر تناولت علبتين وبدأت بالثالثة – كنت في منتصفها .. ساعتها كنت مرتبكاً وخائفاً ، كنت تعاني من فوبيا الحجارة المتساقطة ليلاً ؛ رغم مرور السنوات ، لم تستطع تجاوز المرحلة ..

إعادة صياغة حَجرتكِ واستبدالها بالحَجرة البُرتقالية:

ماذا حدث في الثنايا الماضية من الليلة المؤرِقة؟ حقيقة لم يحدث شيء البتة .. سوى أني حلمتُ أني ألهث وثمة حَجَرة رابضة على الطريق لونها برتقالي ..

حتى هنا لم يحدث شيء سوى الأرق المتكرر !

قلت : سأتجاوز الحَجرة البرتقالية . حاولتُ مراراً أن يهمد الجسد ولو لنصف ساعة ، ليس نتيجة الجهد الجسدي .. بل الأرق والخوف من أن تنطلق تلك البرتقالة من مكانها بجانب الطريق وتنثر جمجمتي المرتبكة من الداخل ..

* * *

سأترك لكِ على الطاولة ورقة وممحاة وقمر حزين...

* * *

تمنيت لو أجلس واستمع لصوت فيروز وأنا أشرب ماء دافئ .. وأبكي ، ولكن البرتقالة الحَجرية جاءتني وأنا هذه المرة جالس ..حاولتُ أن أحرف تفكيري عنها ؛ ثواني ثم ترجع للظهور وبشكل قوي ، حتى تأكدتُ لن تغادرني حتى الآخر ..!

* * *

عندما يحلُ المساء سأكون ناءٍ عنكِ .. أعلمُ أنكِ ستكوني حزينة ومرهقة.. لا تنتظريني – لن أرجع هذه الليلة

* * *

أبريل ما أقساه .. سينعق الغراب ؛ الغراب الذي أحببته .. بشكل عبثي لم أجد يوماً مبرراً لإنجذابي نحوه .. سوى لونه وشكله وصوته – هل يكفي؟ .

* * *

ستحترم رغبتي أنكَ! لن تنساني .. كإنسان كان يحلم بعالم مثالي ، وبسلام يعم العالم .

* * *

رأيتها تتحرك باتجاهي وتتحرك أشياء كثيرة بجانبها ، وكأني في صحراء مظلمة خالية من كل شيء سوى من الحجرة البرتقالية وهي تهجم عليّ ،وصفير الريح يكاد يصمني ، وضعت يداي على أذناي وأغمضت عيناي .. في انتظار الاصطدام الأخير !.

* * *

الليل/ الكتابة/ الأصدقاء / رائحة القهوة/الموسيقى / /أجراس الغبطة/ وصوت عصافيركِ ..

أكثر ما يحزنني ؛ أني سأرحل ووجهي للسماء ولن استطيع الإلتفات !.

* * *

سأرفع يدي ؛ كمحاولة أخيرة قبل أن تتدحرج الحجرة البرتقالية ..!!.

الحَجرة الثانية :

ما حدث في أبريل – القاسي - ، كانت السماء تمطر ورعود وبروق ؛ أخذت تهز المكان .. قبل أن يرتطم بالأرض ؛ رأس: مسعود بن صالح بن علي بن سعيد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن خميس بن علي بن محمد بن عبدالله كهلان بن يقظان بن سيف بن حمود بن مالك بن مضر بن نبهان بن يعرب بن قحطان بن نزار بن عامير بن ماء السماء ..

مثبتٌ هذا الوجع – الإسمي - في حَجرة صلدة !

حَجرة الزاوية :

لا أخافه ، بل لا أحبه .. لأنه يوجعني فيمن أحب .

ماء / تراب /سماء / هواء : نعت الحياة بهكذا تقسيم ، رجل يوناني ينتهي اسمه بحرف السين ..! .

ما يحدث الآن ..

أن الحَجرة اللعينة لا زالت تراقب حركاتي المنبعثة من حركات أصابع قدمي اليسرى ، ألحظ ذلك واستميت في المتابعة ؛ بتحريك أصابع قدمي اليمنى ..

سر الأسرار: أني أحبكِ !.

دائما ما أجادل الحجارة عن لونكِ المثبت أمام الحاضر المستقبلي ، هل ستستمر اللعبة أم ستواصلين الأمر بنفسك ، الموضوع برمته لا يحتاج لتفكير غامق ، بل بفكرة ذهبية لا تتكرر أكثر من لحظة ؛ أن الهروب من منتصف الطريق جيد ، وترك الحابل على النابل شيئا لا يخلو من مكر انساني / لاإنساني ، العبث بهذه الطريقة النكراء فعل أبيض لن يحتاج للون البرتقال ولا لرائحته في الصيف ، سأثير حفيظة ذاكرتكِ الشعرية / هذا همي ! .

لن ولن ولن ولن بالأربع أو حتى على اثنتين ..

أنتِ حاضرة غائبة ، متوحدة منقسمة ، ستحملين السراج ؛ المتبقي في الغرفة الطينية وتعبرين ، وسأبقى في الظلام ، أهاجم الخفافيش بيد عزلاء ، حتى أصفع نفسي ، من كثر الدوران حول الظلام الذي يلفني .

كنتِ تخافين البحر أن يداعب قدميكِ .. وتحطاطين منه ، لسبب واحد أن السر الذي أخبرتكِ به ، في المسافة بين اليابسة والبحر " البحر غادر سرق اللون الأزرق من السماء ، لا تبتهجي بلونه هو بلا لون خادع ؛ كما أنه أهداني صدفة من جوفه ذات مرة ؛ لأضعها بجانب سريري ، لأتذكره ، أتعلمين ماذا اكتشفت : أنه يتنصت على نومي وتقلبي في الفراش وينقل كل حركاتي إلى كائناته المخيفه ، أما كائناته الصغيرة والمغلوب على أمرها لم تصدقه لأنها عاشت الرعب الذي ينتظرها كل لحظة "

حَجرة الرابع من شوال من عام ألف واربعمائة وثمانية وعشرين

كنتُ في غفلة من أمري ؛ ورمت شرارتها عليّ وهربت ، هي في الحقيقة لم تكن الحجارة الأصلية التي تتبعني ؛ بل تشبهها ، أعرف جيداً الآن أنه مشاع في الكون؛ لكي أسقط ..على سبيل المجاز التاريخي المدمر .


هذا ما حدث بالضبط...