الاثنين، يوليو 04، 2016

الصديقان اللذان يطعمان غرابا لـ معاوية الرواحي

تدور رواية الخطاب المزروعي [ذاكرة الكورفيدا] في بيئة سردية مختلفة للغاية عن المتداول عادة في الرواية العربية أو العُمانية. لسبب ما يلجأ الروائيون في رواياتٍ مثل هذه إلى تعقيدات سرديّة أو إلى توصيف زائد عن الحد للشخصيات وللأحداث. هذه الرواية لم تلجأ إلى هذا التصرف المترف الذي يلجأ له الروائي الذي يريد أن يثبت للعالم مهارته الروائية، ولكن لا تنخدع عزيزي القارئ بهذه المقدمة وتعتقد أن هذه الرواية كتبت بأدوات بسيطة. قبل الخوض في العالم السردي للرواية، أذكر القارئ الكريم أن الخطاب المزروع من كتاب القصة القصيرة المعروفين في عمان، وله عدة مجموعات قصصية سابقة مضى فيها الخطاب في طيف مختلفٍ من الثيمات القصصية، من الواقعية، إلى الرمزية، إلى الواقعية الرمزية. هذه المرّة تغيرت المعادلة التي يتبعه الخطاب المزروعي عادة في أعماله القديمة، إنها لعبة الرمزية الواقعية هذه المرّة. تبدو الرواية من الخارج استحضارا لذاكرة بطلين مهمين في الرواية وهما [مرزوق] وعثمان. الحبكة عمانية من الألف للياء، تدور في القسم المهمل من الذاكرة العُمانية التي لا تطرق كثيرا في الأدب الحديث، ولكن هل كان الخطاب المزروعي سارداً فقط في هذا الكتاب المدهش والقيّم بحق؟ تبدأ الرواية بشكل غريب للغاية، شخصية [خصيّ] يحكي علاقته الكونية مع المجتمع الذي يعيش فيه، تبدأ بوردة سُرقت من عاشقها، وبرجلٍ ذهب إلى السجن لأنه تعشّق امرأة لم يكن يجب عليه أن يعشقها. تبدو شخصية عُثمان في الرواية تسجيلا للطرف البسيط الطيّب من الإنسان المعتاد، ذلك الذي يخفي سرّا، والصديق يعرف هذا السر، وعلى الجانب الآخر قام الكائن الروائي في الكتاب برسم الشخصية الأخرى الأهم في الرواية والأكثر رمزية شخصية [مرزوق] بالكثير من الحكايات التي تحيل القارئ إلى ما هو خارج الكتاب. هل تفهم شعورا أن تقرأ رواية وأنت فعليا تقرأ كل شيء خارج الرواية؟ هذا ما فعله الخطاب المزروعي بطريقة أنيقة للغاية. ثمّة أشياء كثيرة لتقال، ولكن الخطاب لم يقلها، وهنا يكمن الذكاء السردي الذي يجعل خيال القارئ مساهما في حبكة الرواية، وفي فهم الإشارات الرمزية التي تحفل بها الرواية. عالم الرمز في الرواية يبدأ من الصداقة، ومن العلاقة مع الأم، هذه هي الثيمة السيكولوجية في الكتاب. التفاوت بين القصتين يجعل القارئ في حالة حيرة بعض الشيء، تعمد الكاتب ذلك، أن ترى كل إنسان بمرآة الآخر، يبدو تأمل الرواية معقدا في البداية، ويصبح سهلا ثم يعود للتعقيد، كل هذه الرمزية تقود إلى ماذا؟ صديقان يطعمان الطائر الذي كان هو بطل الرواية بلا منازع. يتمثل لك مصير اثنين من البشر، وهو مصير بائس ومحزن للغاية، حياة تُختصر في لقاء يبوح به اثنان من الناس بما اتخمت به ذاكرتيهما من أحداث، يبدو التباين السردي بين قصة كل بطل وآخر أداة أخرى من أدوات الكاتب، لا الروائي، الكاتب لم يكتف بإحالاتٍ تعود إلى الحياة الحقيقية، ولكنه أيضا تبرّع للقارئ برصيد آخرٍ من ما كانت عليه المشاعر ذات يوم في عمان. أستطيع أن أقول أن مثل هذه الرواية الصغيرة التي لم تتجاوز الثمانين صفحة قد حازت على دهشتي، وثمة جانب لطيف في هذه الرواية لا يمكن أن نغفله، وهو الربط الذي يمكن أن ينشأ بين القارئ وبين قصة الغراب، ثمة رمزية تربط عثمان ومرزوق، فالغراب في جزء من تجلياته منقذ، ولكنه في جزء من تجليات البطل المقابل معذب، في الوقت نفسه يحمل الحدث أكثر من مغزى وأكثر من إحالة إلى حالة معقدة من المصير الوجودي، كيف يمكن للأبطال في الوقت نفسه أن يعيشوا مأساة تنقذهم؟ وأن يجدوا اليأس في قلب ما يحبون. أصعب شيء بالنسبة لي وأنا أكتب عن هذه الرواية هو الحذر الشديد ألا أخرّب على القارئ الأحداث، وهذه قيمة مضافة إلى هذا الكتاب الذي يستحق أن يقرأ للمرة الثانية فقط لتتبع أثر النهاية وكيفية فهم شخصية [مرزوق] بعد الكشف عن الحادث الأكبر الذي غير طفولته، هذا الحادث الذي ترك أسئلة معلقة أمام القارئ، والرابط الذي كسر كسرا شديدا توقعات القارئ، ولا سيما ذلك القارئ الذي توقع نهاية معتادة لرواية تبدو من الخارج واقعية للغاية. كتاب الخطاب المزروعي هذا يحفل بتقنيات القصة القصيرة، ويحفل أيضا برمزيات الكائن المفكر، ترك الخطاب المزروعي الأفكار تنطق من خلال الأبطال، وعبر تقنية [الغرس] تولى التهيئة للنهاية غير المتوقعة، وعلى عكس الروايات الكلاسيكية، فإن الغرس [وهي تقنية وضع معلومة تهيئ لحبكة قادمة] تستخدم [لتبرير] النهاية، إلا أن هذه الرواية فعلت العكس، كل ما مارسه السارد من غرس مبكر في جسد الرواية كان لخداع القارئ أن كل شيء سيسير بالطريقة نفسها، [طبيعيا]. تمر صفحات الكتاب، ومع التشويق العبثي الذي يستخدمه الكاتب، تصدمك النهاية في الصفحة الأخيرة، لتجد أن كل الذي مررت عليه وكل الرمزيات التي كنت تحشدها في رأسك قد أصبحت كلها هباءً منثورا، وأن ذاكرتك أنت، ذاكرة القارئ أصبحت تعيد قراءة الكتاب مجددا، ولكن هذه المرة من الذاكرة. سعيد للغاية أن كاتبا عُمانيا طرق هذا الباب التجريبي الواسع في الكتابة السردية، وأعتبر هذا الكتاب من أجمل الكتب التي قرأتها، والتي تبدو لك وأنت تخوض صفحات الكتاب محيرة بعض الشيء، حتى تجد أن الكاتب وضع كل رسائله الضمنية والواضحة في العقد الكبرى للإنسان البشري. تناول قضية الأم في الكتاب، ووفاتها كان الخدعة الكبرى التي استخدمها الكاتب، أمام من؟؟ أمام القارئ المحتشد بالتوقعات، التي تخالفها الرواية كلها .. إلا التوقع المبدئي المليء بالأمل أنك أمام كتاب جميل، وهذا هو التوقع الذي لم يخب. كما فعل الكاتب، فعلت في الكتابة عنه، كل هذا سيكون له أكثر من معنى أيضا عندما تبحر في صفحات الكتاب الثمانين، عندها ستجد نفسك مرّة أخرى أمام صدمة ذاتية كبرى، أمام سؤال كبير: كيف استطعتُ أن أؤمن أن كل شيء طبيعي وواقعي في هذا الكتاب؟ ولكي تجيب على هذا السؤال .. عليك أن تقرأ الكتاب ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق