الثلاثاء، ديسمبر 20، 2011

قراءة في لعنة الأمكنة للقاص الخطّاب المزروعي


* نورالدين بقالي





عرفت القصة في عُمان نمواً مطرداً من جراء تحولات البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عرفتها البلاد منذ فجر النهضة الحديثة، والتطور الحثيث ذي الإيقاع السريع منذ سبعينات القرن الماضي إلى الآن في كل المجالات .

ومن خلال مطالعتنا لمجموعة الأديب الخطّاب المزروعي " لعنة الأمكنة " نتيه في عالم من الرُّؤَى يمتزج فيها الواقع بالخيال والوهم بالحقيقة ، وتنهض الحياة متثائبة خارج أسوار الموت لتنفض عنها غبار العبث بينما تظل الأمكنة رغم اللعنة التي وصفها بها الكاتب هي الدفء السرمدي العالق في خبايا الذاكرة .

الرؤية المأساوية للكون عند الخطّاب
" كنت أبني بيتاً صغيراً من الرمال ليسكنه النمل ، ولما نمت قليلاً رأيت رجالاً يلبسون ثياباً سوداء يحنطوني في ذلك البيت ، فهرولت تجاهه وعندما صحوت لأهدمه لم أجده ، بكيت ... ومن ثم بصقت على العالم " (صفحة 13 )

في هذه الإحالة الزمنية الضاربة في الماضي من خلال الفعل الناقص " كنتُ" يعود بنا الكاتب إلى الطفولة السعيدة المليئة بالحب والبراءة ، حيث يبني الطفل مسكناً للنمل ، يغفو سرعان ما يرى رجالاً بثياب سوداء يحنطونه في ذلك البيت . هكذا يتدخل الكبار في عالم الطفولة فيفسدون كل شيء ويعبثون بسعادة الأطفال الأبرياء ، يفزع الطفل ويحاول أن يهدم بيت النمل السعيد لأن الكبار حولوه إلى قبر ، لكن الطفل لا يجده ، فيبكي كل شيء يتحول إلى عدم ، ومن خلال هذا العدم تنبثق الكراهية على الوجود برمته فيقف الطفل ليبصق على العالم ، ومن خلال ارتباط المكان بالموت في مخيلة الكاتب يتولد لديه الإحساس بالفراغ والضياع ، ومن ثم يتحول الكون إلى شيء تافه لا قيمة له لما يحمله من يتم الظلم والقهر والاستبداد .

يستحضر الكاتب الموروث الثقافي: عروة بن الورد/امريء القيس/مالك بن الريب؛ في دعوة للبكاء على القرن التافه ، غضب عارم تفجّره الكلمات وصراع مرير مع الموت وضده من أجل البقاء ، في شكل فني تتداخل فيه الخاطرة بالمذكرات لتشكل نسيجاً نثرياً أدبياً بقالب يترجم تجربة الكاتب وعلاقته بالأمكنة ورؤيته القاتمة للوجود ، ذلك أن العناصر الفنية للقصة لم يعد يهتم بها كتاب القصة الحديثة كالخطاب المزروعي وغيره ، ممن يحاولون التجريب ، لأن شروط القصة القصيرة لم تعد ملزمة بل يتم تجاوزها بحسب درجة وعي الكاتب بالذات والموضوع ووحدة العلاقة بينهما

الفضاء والأمكنة
إن استعراض معجم الخطاب المزروعي في مجموعته القصصية كفيل أن يسلط الضوء على ماهية أمكنته وفضاءاته :
( البيت – المراعي – التلة – المقبرة – اللحد عظام – الموت – المرارة – الدماء المتخثرة – رقصة الموت – الرمال – الصحراء الغراب – الكتابة على الجدران )

من خلال هذا الحشد من الكلمات التي تحملها دلالة سلبية تعكس حالة الكاتب النفسية وإحساسه بالموجودات من حواليه في محاولة يائسة للخروج من ضجيج الموت إلى صمت الحياة ، نتبين أهمية الأمكنة في مخيلة الكاتب ويصبح الزمن ذا وتيرة ممتدة من العصر الجاهلي إلى الآن ، وهي وتيرة استبدادية تسلطية عبّر عنها الأديب بلغة ساخطة وأسلوب مثير يعكس في مجمله الواقع المرير الذي تعيشه الأمة العربية .

من هنا تأتي ( لعنة الأمكنة ) لتحمل وعياً قومياً وبعداً حضارياً وإنسانياً ، ولتبرز على الساحة الأدبية العمانية كاتباً يمكن اعتباره من جيل الرواد في كتابة القصة الحديثة في عُمان .



ـــــــــــــــــــــــ
* كاتب وشاعر من المغرب

الأحد، ديسمبر 18، 2011

صالح العامري..الغارق في لجة النبع




صالح العامري في الحياة، المبطن بالماء..المنساب من ريح شناص،المقذوف إلى الحياة بصوت الحلم المائل جهة الأرض...

يعيش، كما ينبغي هو أن يعيش..

نهما باللبن والموت والعمر والمحو...

هاديء/قلق/حكيم/فوضوي بعناية..حاضر حاضر دون كلام،يراقب المشهد،وكأنه ينتظر الإنفجار العظيم!.

ينبثق صوته من المذياع؛كخرير الماء،باحثا عن كلام الموتى؛العقلاء..لإيقاظ الأحياء..

كان علَيَّ منذ أمدٍ

أن أربّي ثلومي

أن لا أفَرِّطَ في

أديرة

الليل

في عام 1996كنت على بعد خطوات وأسلم روحي للطائر الحديدي،هارباً من قيظ المكان والكائن؛فجأة انبثقت الفكرة بعد منتصف ليلة مدلهمة السواد.قلتُ:سأذهب إلى ظفار- حيث المطر والعشب. اتجهتُ إلى كشك كتب منزوي في ركن المطار،حطت يدي على ديوان الشاعر صالح العامري، مراودات..

من هذا الصالح؟

ماذا يراوده؟

يومها عرفتُ،صالح العامري.

أذكر أني بعد أن انتهيت من قراءة،الديوان ،انفجر شريان في داخل رأسي،وأخذت بكتابة شيء ما بين أوراقه- حاولتُ جاهداً أن أجد الكتاب بين كومات كتبي المعثرة لأطلع الآن على ما كتبت ولكني فشلت.

وصلتُ ظفار وأنا فرح.. الماء والخضرة ومراودات!.

أقبضُ بأسناني

غيمةً لاهثةً

منذورةً للإبادة

أمسكُ بكلتا يديّ

سُقُفاً من

دُخان مطّاير

رجلاي أودعهما في

الضفة البعيدة

لهما قارب الوحشة

وزبانية المنفى...

***

دخلتُ مقهى الحرية(1)،منتظراً عبدالحكيم(2)..

دخل حكيم وابتسامته تتدحرج أمامه.

- ازيك يا مزروعي..

- ....

- شفت صالح..

- من صالح؟

- صالح العامري. هو هنا في القاهرة بأأله كم يوم،دلوأتي اييجي أنا ألتله إنك هنا..

- سأكون سعيداً..

دخل صالح ولم أكن ساعتها رأيت وجهه من قبل.

- أهو صالح..

كنت أشارك في الحديث باقتضاب- لعنة الإرتياب. واسترق النظر إلى صالح..يخرج كلامه بوشوشة هادئة؛كموسيقى مصعد مهجور!.

ذهبنا إلى الليل نلاحقه في قاهرة المعز..وانهيناها بكشري- لم يحذرني حكيم من الصلصة التي وضعت في كيس صغير شفاف. احترق فمي وجوفي..

- هو أنا نسيت أأولك إنه الشطة حارة- بعد ماذا يا حكيم!.

أشار عليّ صالح أن أبيت في الشقة التي استأجرها في الدقي. اخترق البرد عظامي،صرت ارتجف بشكل لاإرادي،والسرير الذي نمت عليه لم يكن عليه لحاف.. اتذكر أني نمتُ ولم أخلع حذائي حتى يدفئني ولكن لم يفد ذلك في شيء ،نمت على الأرض ووضعت المرتبة فوقي؛بعد جهد نمتُ..

بعد أيام اتصلتُ بصالح بأني سأذهب إلى الإسكندرية،قال أنا ذاهب اليوم..سأنتظرك،وأملى عليّ العنوان..لا تنسى مصطفي كامل!.

كان عود منير بشير؛يجرح السكون..

كان لدى صالح مسجلة موصول بها (ميكرفون)،في النهار يسجل مقابلات مع كتّاب وأدباء،وفي الليل ينزع(الميكرفون) ليستمع إلى موسيقاه من أشرطة يحملها أينما ذهب..

في أحد النهارات؛بعد أن تواعدنا أن نلتقي في مقهى قريب من شاطيء الإسكندرية..أخذ صالح ينفض الغبار عن ركبه ويهمهم متذمراً من شيء ما،سألته:ماذا حدث؟ قال: أنه سأل عن أحد ما كان على ما أعتقد يحرر مجلة أدبية تعنى بالمكان – خانتني الذاكرة لأن أتذكر المجلة وصاحبها.أشار عليه شاب بأن يأخذه في دراجته النارية،وأدخله في أزقة ضيقة،ولضيقها أخذت ركب صالح تحك في الجدران. ضحكتُ،ثم أخذ بالضحك ..

أشار إلى عمارة بيضاء-أظنها فندق:

- هنا عاش لورنس داريل..

- صاحب رباعية الإسكندرية؟

- نعم...

ومنذ هذي اللوحة

سأكون تاجر لُبانٍ

بين ظفار

وحتشبسوت

ولن أكتفي بعنقٍ

واحد

كان صالح قد جلب معه مخطوطة ديوانه الأخير،خطّاط السهو،وأنا جلبت معي لعنتي..

كنا نتشاور في النشر،فقال:أشار عليّ حكيم أن ننشر في دار الجمال والحب-ليتها كانت كذلك!. قلتُ له: هو أشار عليّ أيضا..

التقينا،وأهداني خطاط السهو..ثم مد يده، وقال:إعطني الديوان ففيه أخطاء كثيرة.. دعني أصوب نهدا عائشة!.

ليس لدي ما أقوله عن صالح فلقد قال:

انتهيتُ من ال

غ

ر

ق

الآن أفهمُ الجميع

(1) مقهى الحرية: في ميدان التحرير بالقاهرة.

(2) عبدالحكيم: الروائي المصري عبدالحكيم حيدر.

(3) صورة صالح العامري في الأعلى من الأرشيف الخاص للكاتب(تصوير الخطاب المزروعي في شاطيء الإسكندرية)

(4) المقاطع الشعرية الواردة في المقال ،للشاعر صالح العامري

الثلاثاء، ديسمبر 13، 2011

القَبْــو

"من الظَّلام جئت وإلى الظلام أعود"

سعد الله ونّوس

النهاية

حاولتُ تحريك رجليَّ، وكأني فراشة توشك أن تخرج من شرنقتها. غمرني النور.. فصرخت. سائل مخاطي، دم ذو رائحة صديدية، بول اختلطت به. وقفت على رأسي وأنا أشاهد العالم. لفوني بخرقة. أحسست بألم لذيذ يجمع عظامي الصغيرة. خُدِعْتُ؛ لم أكن أعلم أنها النهاية.

القبو

أشعلت لفافة بيضاء كجناح النورس حملتني إلى مرافئ مدن جميلة لكنها فقيرة. مددت يدي وأنا أمرُّ بين البيوت القديمة. خدشتني حصيات نتأت من الجدران بفعل المطر والزمن المعطوب. تذكرت المجنون: أمرُّ على الديار!.

غمست يداً في ساقية الفلج.. غسلت وجهي من بقايا قبائل علقت به.

- قوم صلِّي - قال أبي.

رمقته بنظرة خاطفة. صمتّ.

ركضتُ. سمعت صوت أبي يُلاحقني:

- ما عليك الملعون، الكلب

أنا الكلب أم هؤلاء البشر؟. هربت إلى المقبرة.

صرختُ: اقتلني... لا أحبُّ هذه الحياة الملعونة. رجع الصَّدى قاسياً ضبابيّاً. عوت الكلاب من ناحية الجبل، وكأن تلك المخلوقات تسخر مني.

تمدَّدت على الحصباء حتى داهمني الليل. عندما فتحت عينيَّ رأيت النجوم تُراقِبُني؛ كعيني ذئب

سمعت صوت امرأة يقترب من المزرعة التي كانت على يميني. تيقَّنت أنه صوت زوينة؛ كانت تبحث عن دجاجتها التي لم ترجع مع الديك. جلستُ حتى لا تفاجأ بي. لم ترني المسكينة، أحذ صوتها يختفي كما جاء.

أشعلت لفافة، ورسمتُ دوائر هلامية. أخذت أُحوِّل المنظر إلى فكرة! حياتنا.. كهذه الدوائر الدخانية تتلاشى، ولكن سمعت المعلم صالح يقول: إننا سنبعث يوم القيامة، وسيُحاسِبنا ربُّنا حتى على التمرة التي نأكلها. قلت في سريرتي: لماذا إذن يأكل مالَ أبناء أخيه اليتامى؟. نفثت آخر نفس من اللفافة. بصقت على المعلم صالح. قرَّرت أن لا أرجع إلى البيت باكراً، لأن أبي سيُحاسِبُني: أين ذهبت؟ وأين صليت؟ ومن رافقت؟، وكأنه استخلفه ربه لمحاسبتي قبل الأوان.

كان المكان ساكناً. ما أجمل أن يتوحَّد الإنسان بنفسه!!!.

أحسست بخطوات تقترب مني، وشبح في الظلام يقترب مني. قلت في سريرتي: إن كان أبي سأركض إلى الجبل ليأويني..!.

كان الشبح القادم يدخن!. (هذا حتماً ليس أبي).

هاه.. حمدان.

- أكيد تحبّ وما قلت لي (خرج صوته متهكماً، أعقبه بضحكة ساخرة كصوته).

- أرجوك حمدان تعال غنِّ لي.

حملني صوت حمدان إلى مدن جميلة. صرت أحلق كفراشة تهوى اللعب بالنار -لأنسى ورطتي!.

* * *

- عبود ود سويدان كان باغي تستعجب.

- أعرفه كان جده خادم جدي.. إلين اليوم ما يقول السلام عليكم.

- عجب ما كذاك، تو يوم يتخرج من الجامعة.. يقولوا معاشه أكثر من خمسمائة ريال.

- انشا الله يعطوه ألف أيبقى ود سويدان كما هو، ما يرتفع أفوق يوم ما ينزل.

تسمرت تحت نافذة "سبلة الجماعة" وأنا أستمع إلى الحوار الذي يدور بين حمود وجمعه، بصقت. أشعلت لفافة، وواصلت طريقي إلى البيت؛ ليحترق هذا العالم، الغرب يقتسمون أراضي المريخ، ونحن نقتسم الناس؛ نبيعهم ونشتريهم، وكأننا في أسواق النخاسة.

البداية

كانت القرية تتهيأ لمضاجعة الليل، فأُشعل فانوس هنا وهناك. أدخلت زوينة دجاجتها والديك حتى لا يبيتان على السدرة ويأكلهما الثعلب!. ضحكات الصبايا تأتي مختلسة الأشجار من ناحية ساقية الفلج، وهنَّ يفركن أجسادهن الرُّخاميَّة البضَّة، ويتقافزن فوق بعضهن بعضًا غبطة؛ لأنهن استطعن أن يسبحن عاريات دون أن يراهن أحد… لأن الليل يُغطِّي الجميع، وحمدان الذي يستمتع بالمنظر الخلاسي وهو يمتطي أحد فروع شجرة المانجو أعلى الساقية، وضوء القمر يتسلَّل إلى تلك الأجساد السمكية، وهن يتقافزن فرحاً وغبطة؛ كان كل شيء يمضي بإحكام لولا أن صرخة دوت فهزَّت القرية!.

نزل حمدان مسرعاً دون أن يكترث بمشاهدة الصبايا أنه كان يراقبهن. رفع دشداشته بعدما تبيَّن له مصدر الصراخ، وأطلق ساقيه للرِّيح… إنه يأتي من جهة بيت صديقه محمد.

كانت خديجة تصرخ وهي تخدش وجهها، مادَّةً رجْليها وشعرها المنفوش فوق الجثة المسجاة أمامها…

وقف حمدان يزن المنظر في عقله؛ من هذا؟!. وهو لا يريد أن يخمن !.

لحظات حتى كان معظم أهالي القرية متجمهرين داخل بيت عيسى وخارجه. شق ذلك الجمع المعلم صالح بعمامته البيضاء. اتجه إلى الجثة وقلبها بكلتا يديه بعدما وضع عصاه على الأرض. رمقته عينا محمد الجامدتان.

- اذكري الله يا حرمة (قال المعلم صالح) مخاطباً خديجة، وأردف:

- عيسى.

تلاقت عيون الجميع وهم يبحثون عنه بينهم… صرخ حمدان وأخذ يركض متجهاً إلى تلة المقبرة. أخذ يصرخ ويمزق دشداشته ويمرغ أنفه في التراب كذئب تلقى رصاصة قاتلة. صرخ بصوت حتى أغشي عليه ولم يفق إلا على صوت ديك زوينة وهو يعلن منتصف الليل.

كانت خطوات رجلين تقترب منه تُبيِّن له أنهما حمود وجمعه يتهامسان بينهما:

- مسكين محمد دائماً يتشاجر مع أبيه.

- هذه نهاية كل واحد ما يطيع الله ورسوله!.

- المشكلة الحين ما كذاك.. خديجة أكيد ما رايحة تتحمل الصدمة بنْها المقتول إذا كان القاتل أبوه.

- مسكين محمد الله يرحمه!.

كانت خطوات الرجلين تبتعد وصوتهما يتلاشى. دفن حمدان وجهه في يديه وأخذ يبكي محاولاً أن يخرج من قبوه.

الأحد، ديسمبر 11، 2011

البُرتقالة ؛ بصيغة الغائب


ليلة تدحرج الحجارة

الحَجرة الأولى :

المسألة لا تعني الماء الذي سال في الطرقات ؛ ولا حتى الحكايات التي كتبتها .. الحكايات المنبثقة من غيب الحرف الذي يعصى عليك الخروج ؛ كحجة تستخدمينها لإحتجاجك على ما يحدث في النهار ..

الغيمة لا تهتم إلا من يتذمر من سقوطها عليه .

وحتى أكون صائباً، ولا اتحذلق على ما حدث ؛ ستكوني هذه المرة مستمعة لحكاياتك من لساني هذا.. – الخاصة والعامة – التي وردت في متن سِفرك ولعناتكِ والليالي التي مرت وأنتي تنسجين الحكاية وراء أخرى . إذا لن أضيف شيئا البتة ؛ سوى أني سأعيد صياغة ما حدث في تلك الليلة – الليلة الأخيرة- التي سقطت فيها الحجارة ؛ وتدحرجت على البيوت الطينية وأصبحت تسكنها بدل أهلها .. الذين أصبحوا ، في العراء وبجانب منابع المياه ، وتحت ظلال الأشجار العطشى ..

حَجرتكِ قبل الصياغة :

كان الليل بدأ ينسج خيوطه ، وكنتَ تعباً ، اقترحتُ عليكَ أن تنتظر قليلا ؛ لأني أعرفك جيدا بأنك كائن ليلي ؛ واقترحت عليك أن تأخذ علبة جعة من الثلاجة – رغم أنك لا تحبذها ، لأنك لديك حساسية منها – لأنك كما أخبرتني سيظهر على جلد كفيك وقدميك طفح ؛ بعد يوم من شربها ؛ لذا أنك تتجنبها وتفضل السكوتش لهذا السبب – لكنك على ما أذكر تناولت علبتين وبدأت بالثالثة – كنت في منتصفها .. ساعتها كنت مرتبكاً وخائفاً ، كنت تعاني من فوبيا الحجارة المتساقطة ليلاً ؛ رغم مرور السنوات ، لم تستطع تجاوز المرحلة ..

إعادة صياغة حَجرتكِ واستبدالها بالحَجرة البُرتقالية:

ماذا حدث في الثنايا الماضية من الليلة المؤرِقة؟ حقيقة لم يحدث شيء البتة .. سوى أني حلمتُ أني ألهث وثمة حَجَرة رابضة على الطريق لونها برتقالي ..

حتى هنا لم يحدث شيء سوى الأرق المتكرر !

قلت : سأتجاوز الحَجرة البرتقالية . حاولتُ مراراً أن يهمد الجسد ولو لنصف ساعة ، ليس نتيجة الجهد الجسدي .. بل الأرق والخوف من أن تنطلق تلك البرتقالة من مكانها بجانب الطريق وتنثر جمجمتي المرتبكة من الداخل ..

* * *

سأترك لكِ على الطاولة ورقة وممحاة وقمر حزين...

* * *

تمنيت لو أجلس واستمع لصوت فيروز وأنا أشرب ماء دافئ .. وأبكي ، ولكن البرتقالة الحَجرية جاءتني وأنا هذه المرة جالس ..حاولتُ أن أحرف تفكيري عنها ؛ ثواني ثم ترجع للظهور وبشكل قوي ، حتى تأكدتُ لن تغادرني حتى الآخر ..!

* * *

عندما يحلُ المساء سأكون ناءٍ عنكِ .. أعلمُ أنكِ ستكوني حزينة ومرهقة.. لا تنتظريني – لن أرجع هذه الليلة

* * *

أبريل ما أقساه .. سينعق الغراب ؛ الغراب الذي أحببته .. بشكل عبثي لم أجد يوماً مبرراً لإنجذابي نحوه .. سوى لونه وشكله وصوته – هل يكفي؟ .

* * *

ستحترم رغبتي أنكَ! لن تنساني .. كإنسان كان يحلم بعالم مثالي ، وبسلام يعم العالم .

* * *

رأيتها تتحرك باتجاهي وتتحرك أشياء كثيرة بجانبها ، وكأني في صحراء مظلمة خالية من كل شيء سوى من الحجرة البرتقالية وهي تهجم عليّ ،وصفير الريح يكاد يصمني ، وضعت يداي على أذناي وأغمضت عيناي .. في انتظار الاصطدام الأخير !.

* * *

الليل/ الكتابة/ الأصدقاء / رائحة القهوة/الموسيقى / /أجراس الغبطة/ وصوت عصافيركِ ..

أكثر ما يحزنني ؛ أني سأرحل ووجهي للسماء ولن استطيع الإلتفات !.

* * *

سأرفع يدي ؛ كمحاولة أخيرة قبل أن تتدحرج الحجرة البرتقالية ..!!.

الحَجرة الثانية :

ما حدث في أبريل – القاسي - ، كانت السماء تمطر ورعود وبروق ؛ أخذت تهز المكان .. قبل أن يرتطم بالأرض ؛ رأس: مسعود بن صالح بن علي بن سعيد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن خميس بن علي بن محمد بن عبدالله كهلان بن يقظان بن سيف بن حمود بن مالك بن مضر بن نبهان بن يعرب بن قحطان بن نزار بن عامير بن ماء السماء ..

مثبتٌ هذا الوجع – الإسمي - في حَجرة صلدة !

حَجرة الزاوية :

لا أخافه ، بل لا أحبه .. لأنه يوجعني فيمن أحب .

ماء / تراب /سماء / هواء : نعت الحياة بهكذا تقسيم ، رجل يوناني ينتهي اسمه بحرف السين ..! .

ما يحدث الآن ..

أن الحَجرة اللعينة لا زالت تراقب حركاتي المنبعثة من حركات أصابع قدمي اليسرى ، ألحظ ذلك واستميت في المتابعة ؛ بتحريك أصابع قدمي اليمنى ..

سر الأسرار: أني أحبكِ !.

دائما ما أجادل الحجارة عن لونكِ المثبت أمام الحاضر المستقبلي ، هل ستستمر اللعبة أم ستواصلين الأمر بنفسك ، الموضوع برمته لا يحتاج لتفكير غامق ، بل بفكرة ذهبية لا تتكرر أكثر من لحظة ؛ أن الهروب من منتصف الطريق جيد ، وترك الحابل على النابل شيئا لا يخلو من مكر انساني / لاإنساني ، العبث بهذه الطريقة النكراء فعل أبيض لن يحتاج للون البرتقال ولا لرائحته في الصيف ، سأثير حفيظة ذاكرتكِ الشعرية / هذا همي ! .

لن ولن ولن ولن بالأربع أو حتى على اثنتين ..

أنتِ حاضرة غائبة ، متوحدة منقسمة ، ستحملين السراج ؛ المتبقي في الغرفة الطينية وتعبرين ، وسأبقى في الظلام ، أهاجم الخفافيش بيد عزلاء ، حتى أصفع نفسي ، من كثر الدوران حول الظلام الذي يلفني .

كنتِ تخافين البحر أن يداعب قدميكِ .. وتحطاطين منه ، لسبب واحد أن السر الذي أخبرتكِ به ، في المسافة بين اليابسة والبحر " البحر غادر سرق اللون الأزرق من السماء ، لا تبتهجي بلونه هو بلا لون خادع ؛ كما أنه أهداني صدفة من جوفه ذات مرة ؛ لأضعها بجانب سريري ، لأتذكره ، أتعلمين ماذا اكتشفت : أنه يتنصت على نومي وتقلبي في الفراش وينقل كل حركاتي إلى كائناته المخيفه ، أما كائناته الصغيرة والمغلوب على أمرها لم تصدقه لأنها عاشت الرعب الذي ينتظرها كل لحظة "

حَجرة الرابع من شوال من عام ألف واربعمائة وثمانية وعشرين

كنتُ في غفلة من أمري ؛ ورمت شرارتها عليّ وهربت ، هي في الحقيقة لم تكن الحجارة الأصلية التي تتبعني ؛ بل تشبهها ، أعرف جيداً الآن أنه مشاع في الكون؛ لكي أسقط ..على سبيل المجاز التاريخي المدمر .


هذا ما حدث بالضبط...

الثلاثاء، ديسمبر 06، 2011

فجيعة المطر وانتحار المشهد الفجري




هذا الفجر المنتحر ؛ في بداية يوم يجيء باكياً بالمطر ، لا أعلم لماذا عندما تبكي السماء ؛ يجيء السيّاب وأطفال من الكلمات الضاحكة المحزنة. فارقني النوم عندما تكتك المطر على جهاز التكييف كأم توقظ طفلها الوحيد...

تك .. تك .. تك

* * *

يا أيتها السماء الجميلة فلتغسليني ببكائك العذب .

* * *

أضطجعُ ، فيزداد البرق لمعاناً بين النخيل فتستبانُ سعفات النخيل ؛ كإبط امرأة مدهون بالزيت ، سرعان ما يختفي ... أسّمر عينيّ على النافذة لعل اللحظة تتكرر ، فتصفق الريح باب الغرفة ؛ الذي تركته مفتوحاً لامرأة أنتظرها منذ قرن ..!!.

* * *

(يخشخش) اسم السيّاب في ذاكرتي ، كنت أتمنى أن أقرأ قصيدته : أنشودة المطر ، ليجيئا مترادفين .

* * *

بدأ المزراب يمتلئ ، أصغيتُ كثيرا للماء وهو ينزل منه ، فيجيء كحصان يبول ، أخاله سينقطع بعد ثواني لكنه يستمر ، فلا تكتمل الصورة في رأسي .

* * *

ما أجمل هذا الفجر المملوء بالميلاد المذيل بالموت الرديء؛ الذي لم أنتظره أبداً على مشارف السماء الماطرة.

* * *

يتسلل ضوء المسجد من بين قامات النخيل المنتعشة بالفجر ، كان الضوء يصلني متشظياً ؛ كحزمة من نيازك تنتحر، أحاول قدر الإمكان أن أجمعه.( يطرطش) الماء أسفل البيت ، وهو يسقط مترنحاً على الطين ...

* * *

كانت النخيل تمتد في فضاء من الرغبة لتعانق السماء ، أظن أن المطر غافلها ذات لحظة وأفشى لها بإشاعة ؛ أن في السماء بقاء أكثر ، لم تفطن . إن كان كذلك لماذا يسافر هذا الماء باتجاه الأسفل الطيني ؟! أظنها فكرة مشوشة كزجاجة تراكم عليها التراب .

* * *

ضوء المصباح الشاحب يربك اللحظة وينازعها البقاء بهدوء ، ضوؤه يجيء جنائزياً مائلاً إلى الصفرة ؛ كوجنتي طفل يحتضر .. لا زال المطر (يطرطش) وهو يصطدم بالأرض الحبلى بالماء والخصب هذي اللحظة .

* * *

صوت المؤذن يجاهد بين صوت المطر ، فيجيء محمّلاً بالفجيعة ؛ كحيوان داهمه الموت وهو يعدو . يختفي قليلاً فيظهر الصوت ثانية ، وفجأة يشتعل الفضاء بأصوات المؤذنين ، ويلتمع البرق ..يتمسرح الوجود بأكمله. يقتفي سمعي صوت ديك الجيران ، يجيء ويذهب أيضاً مع صوت المطر المبلل بضوء الصبح ؛ الذي بدأ يغزو الكائنات فيزعجها بحضوره المفاجئ .