الثلاثاء، ديسمبر 13، 2011

القَبْــو

"من الظَّلام جئت وإلى الظلام أعود"

سعد الله ونّوس

النهاية

حاولتُ تحريك رجليَّ، وكأني فراشة توشك أن تخرج من شرنقتها. غمرني النور.. فصرخت. سائل مخاطي، دم ذو رائحة صديدية، بول اختلطت به. وقفت على رأسي وأنا أشاهد العالم. لفوني بخرقة. أحسست بألم لذيذ يجمع عظامي الصغيرة. خُدِعْتُ؛ لم أكن أعلم أنها النهاية.

القبو

أشعلت لفافة بيضاء كجناح النورس حملتني إلى مرافئ مدن جميلة لكنها فقيرة. مددت يدي وأنا أمرُّ بين البيوت القديمة. خدشتني حصيات نتأت من الجدران بفعل المطر والزمن المعطوب. تذكرت المجنون: أمرُّ على الديار!.

غمست يداً في ساقية الفلج.. غسلت وجهي من بقايا قبائل علقت به.

- قوم صلِّي - قال أبي.

رمقته بنظرة خاطفة. صمتّ.

ركضتُ. سمعت صوت أبي يُلاحقني:

- ما عليك الملعون، الكلب

أنا الكلب أم هؤلاء البشر؟. هربت إلى المقبرة.

صرختُ: اقتلني... لا أحبُّ هذه الحياة الملعونة. رجع الصَّدى قاسياً ضبابيّاً. عوت الكلاب من ناحية الجبل، وكأن تلك المخلوقات تسخر مني.

تمدَّدت على الحصباء حتى داهمني الليل. عندما فتحت عينيَّ رأيت النجوم تُراقِبُني؛ كعيني ذئب

سمعت صوت امرأة يقترب من المزرعة التي كانت على يميني. تيقَّنت أنه صوت زوينة؛ كانت تبحث عن دجاجتها التي لم ترجع مع الديك. جلستُ حتى لا تفاجأ بي. لم ترني المسكينة، أحذ صوتها يختفي كما جاء.

أشعلت لفافة، ورسمتُ دوائر هلامية. أخذت أُحوِّل المنظر إلى فكرة! حياتنا.. كهذه الدوائر الدخانية تتلاشى، ولكن سمعت المعلم صالح يقول: إننا سنبعث يوم القيامة، وسيُحاسِبنا ربُّنا حتى على التمرة التي نأكلها. قلت في سريرتي: لماذا إذن يأكل مالَ أبناء أخيه اليتامى؟. نفثت آخر نفس من اللفافة. بصقت على المعلم صالح. قرَّرت أن لا أرجع إلى البيت باكراً، لأن أبي سيُحاسِبُني: أين ذهبت؟ وأين صليت؟ ومن رافقت؟، وكأنه استخلفه ربه لمحاسبتي قبل الأوان.

كان المكان ساكناً. ما أجمل أن يتوحَّد الإنسان بنفسه!!!.

أحسست بخطوات تقترب مني، وشبح في الظلام يقترب مني. قلت في سريرتي: إن كان أبي سأركض إلى الجبل ليأويني..!.

كان الشبح القادم يدخن!. (هذا حتماً ليس أبي).

هاه.. حمدان.

- أكيد تحبّ وما قلت لي (خرج صوته متهكماً، أعقبه بضحكة ساخرة كصوته).

- أرجوك حمدان تعال غنِّ لي.

حملني صوت حمدان إلى مدن جميلة. صرت أحلق كفراشة تهوى اللعب بالنار -لأنسى ورطتي!.

* * *

- عبود ود سويدان كان باغي تستعجب.

- أعرفه كان جده خادم جدي.. إلين اليوم ما يقول السلام عليكم.

- عجب ما كذاك، تو يوم يتخرج من الجامعة.. يقولوا معاشه أكثر من خمسمائة ريال.

- انشا الله يعطوه ألف أيبقى ود سويدان كما هو، ما يرتفع أفوق يوم ما ينزل.

تسمرت تحت نافذة "سبلة الجماعة" وأنا أستمع إلى الحوار الذي يدور بين حمود وجمعه، بصقت. أشعلت لفافة، وواصلت طريقي إلى البيت؛ ليحترق هذا العالم، الغرب يقتسمون أراضي المريخ، ونحن نقتسم الناس؛ نبيعهم ونشتريهم، وكأننا في أسواق النخاسة.

البداية

كانت القرية تتهيأ لمضاجعة الليل، فأُشعل فانوس هنا وهناك. أدخلت زوينة دجاجتها والديك حتى لا يبيتان على السدرة ويأكلهما الثعلب!. ضحكات الصبايا تأتي مختلسة الأشجار من ناحية ساقية الفلج، وهنَّ يفركن أجسادهن الرُّخاميَّة البضَّة، ويتقافزن فوق بعضهن بعضًا غبطة؛ لأنهن استطعن أن يسبحن عاريات دون أن يراهن أحد… لأن الليل يُغطِّي الجميع، وحمدان الذي يستمتع بالمنظر الخلاسي وهو يمتطي أحد فروع شجرة المانجو أعلى الساقية، وضوء القمر يتسلَّل إلى تلك الأجساد السمكية، وهن يتقافزن فرحاً وغبطة؛ كان كل شيء يمضي بإحكام لولا أن صرخة دوت فهزَّت القرية!.

نزل حمدان مسرعاً دون أن يكترث بمشاهدة الصبايا أنه كان يراقبهن. رفع دشداشته بعدما تبيَّن له مصدر الصراخ، وأطلق ساقيه للرِّيح… إنه يأتي من جهة بيت صديقه محمد.

كانت خديجة تصرخ وهي تخدش وجهها، مادَّةً رجْليها وشعرها المنفوش فوق الجثة المسجاة أمامها…

وقف حمدان يزن المنظر في عقله؛ من هذا؟!. وهو لا يريد أن يخمن !.

لحظات حتى كان معظم أهالي القرية متجمهرين داخل بيت عيسى وخارجه. شق ذلك الجمع المعلم صالح بعمامته البيضاء. اتجه إلى الجثة وقلبها بكلتا يديه بعدما وضع عصاه على الأرض. رمقته عينا محمد الجامدتان.

- اذكري الله يا حرمة (قال المعلم صالح) مخاطباً خديجة، وأردف:

- عيسى.

تلاقت عيون الجميع وهم يبحثون عنه بينهم… صرخ حمدان وأخذ يركض متجهاً إلى تلة المقبرة. أخذ يصرخ ويمزق دشداشته ويمرغ أنفه في التراب كذئب تلقى رصاصة قاتلة. صرخ بصوت حتى أغشي عليه ولم يفق إلا على صوت ديك زوينة وهو يعلن منتصف الليل.

كانت خطوات رجلين تقترب منه تُبيِّن له أنهما حمود وجمعه يتهامسان بينهما:

- مسكين محمد دائماً يتشاجر مع أبيه.

- هذه نهاية كل واحد ما يطيع الله ورسوله!.

- المشكلة الحين ما كذاك.. خديجة أكيد ما رايحة تتحمل الصدمة بنْها المقتول إذا كان القاتل أبوه.

- مسكين محمد الله يرحمه!.

كانت خطوات الرجلين تبتعد وصوتهما يتلاشى. دفن حمدان وجهه في يديه وأخذ يبكي محاولاً أن يخرج من قبوه.

هناك تعليقان (2):

  1. اشتقنا لكتاباتك خطاب! متى ستنشر المزيد؟

    ردحذف
  2. شكرا أخي على تواصلك.. لا جديد لدي للأسف

    ردحذف