الأربعاء، أكتوبر 26، 2011

الانحناءة الأخيرة لرقبة مالك الحزين


   أعجبه انعكاس القمر ولون السحاب ولون عينيه اللتين تشبهان الجرح ؛ على زجاج الماء.
 تمرأى كثيراً في السطح الصقيل ، البلور الشفاف الجاري بهدوء وبعذوبة؛ كدموع العذارى على مرمر الوجه.. سرت إليه كهرباء الصوت بالخرير المقلق المنبثق من الحجارة الصلدة الملساء .

  ظل زمناً طارحاً عنقه بقدر ما يلامس منقاره العاجي السطح الجاري ، مصدوماً بالجمال بالدهشة المتغلغلة في أوردته الرفيعة ، لم يحرك ساكناً وظل ككومة قطن ناصعة البياض ، منسية لتزداد ألقاً، في الغروب المشرّب بالصفرة الحمراء..

  رفع ساقه اليمنى واقفاً على اليسرى بعد أن سرت رائحة الصبية العذراء المغتسلة في أعلى المجرى، ضرب بجناحيه على سطح الماء ليتعطر بصابون إبطيها الزكيين ، ضرب ثلاث مرات ومن ثم سرت في جسده الرفيع دوخة لذيذة بدءاً من طرف منقاره إلى آخر إصبع في ساقه المرفوعة ، نفض ريشه مرتين ليعيد توازن درجة الحرارة في جوفه .

  مرت أعلى منه أسراب من الطيور راجعة إلى بيوتها خائفة من العتمة القادمة المنبثقة من أعلى السحاب ، انتفض جسده قليلاً بعد أن لامس ريشاته هواء خفقان أجنحة السرب.

   توهج المكان برائحة الصبية؛ المغتسلة بالعشب الطازج أحس بدفء يغمره، كهالة مقدسة ، كحنان آمن .. حرك عينيه دون أن يتحرك بعد أن ازداد المكان عتمة إلا من بياض ريشه .

  أحس بالندى يداعب ريشه. اختلطت رائحة ريشه المبلل برائحة الصبية؛ المنتشرة في الماء أحس أنه خفيف، خفيف جداً وأنه طائر في السماء باتجاه ضوء خفيف يشعره بلسعة عذوبة تسري في رقبته كلما اقترب من الضوء القادم ..وأن صبية فاتنة تتعلق برقبته، رائحة جسدها تفوح بالعشب الطازج ، صوتها عذب يشبه خرير الماء، وتخيلها أيضاً أن وجنتاها صافيتان كسطح الماء الصقيل وعيناها بلون الطحلب أسفل الماء الجاري.


  مر الليل خفيفاً وسريعاً عليه والصبية ما زالت تغتسل في الماء الجاري ، عرف ذلك من رائحة جسدها وشعرها المبلل الذي حملته نسمة الفجر مختلطة برائحة الحرمل والياس والظفرة ..
حاول أن يحرك ساقه التي يقف عليها لكنه لم يستطع ، ثم حاول أن يحرك جناحيه لكنه لم يفلح ، حتى عينيه لم يستطع أن يحركهما .. اكتشف أنه يستطيع أن يفكر ويتخيل لكن لا يستطيع أن يتحرك أبداً .. انفجرت فجأة دمعة من عينيه اللتين لا يستطيع تحريكهما؛ في البداية تدحرجت على منقاره ومن ثم هوت على سطح الماء كالشهقة لتمضي مختلطة برائحة الصبية المنتشرة في المجرى..

الأربعاء، أكتوبر 19، 2011

لعنة الأمكنة .. تساؤلات الحكاية ـــ محمد سيف الرحبي




يخاتل الخطاب المزروعي قاريء مجموعته القصصية "لعنة الأمكنة" بما أسماه "استهداء" أخذه من فيتولد جومبروفتش حيث يقول: "أنا لم أبرم أي عقد مع أحد لكي أكتب جيدا"، كأنه يطالب قارئه بأن الكتابة الجيدة ليست واجبة، وما تحتضنه مجموعته من نصوص قصصية قابلة لذلك الاحتمال، إن كان القارئ لا تعجبه (أو غير معني) بالتفاصيل الملتقطة بين دفتي المجموعة الصادرة عن دار نينوى.


يجمع المزروعي ملامح نصوص مجموعته في الإهداء حيث يقدمه إلى فاطمة "التي تشبه نوبات البكاء في زمن القحط" مستدركا باعتذار عن فجيعة سبّبها لها مردّها إلى "جنون اللحظة لا أكثر"، فاستوت النصوص على تلال من البكاء والفجيعة والجنون، مبتدأها "خطوات لزجة للفرجة"، وخبرها "هدوء بغيض".. وبين المبتدأ والخبر عناوين دالة على فجيعة وحزن وجنون، متوزع الموت على تفاصيل الحكايات إن لم يسكن العنوان الدال في أغلب الحالات عليها، فـ "أنا" السارد، و"ذات" المخاطب متصفة في مجمل النصوص بالجنون، والحالة العامة لأجواء الحكايات فاقدة لرشدها.

ينطلق الخطاب المزروعي في أغلب نصوص مجموعته "لعنة الأمكنة" من حالة فراغ هائلة تتحد فيها ذات المؤلف مع ذوات الشخوص التي تبدو واحدة تتحدث بصوت واحد فغالب عنها التنوع، والمعاناة مع الوجود والموجودات، فهي في مواجهة دائمة مع الفراغ المتسع أمامها، ولا وراءه إلا الموت كمخرج دائم من الفجيعة والإحساس المرير بتذكر راحلين، أخذهم الموت، أوالفراق "بعيدا عن الكون التافه".

الوجود من حول الكاتب / السارد منغلق على بكائيات وفقد، فالمؤلف هو البطل الدائم في جميع النصوص، بحيث يقرأ المرء هذه المجموعة ويرى الكاتب فاردا أرديته كبطل أوحد، هو بطل الحكايات، أو من يتحدث إليها، أو يتحدث باسمها، أو يرصد علاقاته معها بواسطة تجليات تأملية، تتلبسها شخوص معينة، كالحلاج (مثلا) في نص لعنة الأمكنة الحامل عنوان المجموعة.

يعبّر نص لعبة حمقاء بوضوح تام عن همينة المؤلف كبطل أوحد في نصوص مجموعته، هي تساؤله "ماذا عساي أكتب؟ .. ولمن؟" راصدا تداعيات فكرة البحث عن مكتوب يلقمه فم اللعبة المجنونة (الجنون دائما)، يقع في حيرته، أن يكتب عن نفسه، أو عن فيروز (كاشتغال أدمنه كثيرون من الأدباء العرب) ، منطلقا من فكرة لا جدوى الوجود / الكتابة، يرى "الكتابة هي الحل الأخير حيل كل هذا الخراب الذي يحاصره، ويرى أنه في تلك اللعبة مكره لا بطل.

هذا الاندماج (القسري) لم يكن في صالح القص الذي نأى بعيدا لصالح الشعرية التي يطلبها المزروعي كهاجس دائم في أغلب النصوص، وأسميها نصوصا لأنها تميل إلى الشعرية أكثر مما يحتمله الحدث الذي يكاد غائبا إلا ما يعيد القارئ إلى بعض اللفتات القليلة، والقول أنها مجموعة قصصية لا شعرية.. وإن كتبت بنفس القصيدة، معنى لا مبنى، وفي الأدب المعاصر فإن تماهي الأجناس أصبح مشجبة تعلق عليها الذاتيات والخواطر وما لا اسم له.

من الأمثلة على ذلك ما نجده في مطلع نص ذاكرة الموت الشائخة إذ تأتي الجملة: "أيها الغائب الحاضر.. ما هكذا تتوادع النوارس... يتمرغ الحزن في جسدي" (ص75)، يحاول في هذا النص الدفاع عن اندفاعه للكتابة بالشعر بنفيه كونه شاعرا، وكتابته بلحن موجع:

- لماذا شعرك دائما يحمل عبق الحزن والألم؟

- لأني لست شاعرا، بل تابوتيا؟

هذا التبرير قد لا يلغي الشاعرية، لكنه يؤكد حقا على "تابوتية" تنال منها سائر قصص المجموعة (أو نصوصها).

وفي قصة قرية النقّاق وما حدث لها يتدخل بشكل مباشر ليشير إلينا بين قوسين إلى أن النقاق الذي يدعي أنه ضاجع الكثيرات من بنات القرية موضحا (بالمناسبة إنه عنّين، ولكن لديه أكثر من أربعة وخمسين ما بين ذكر وأنثى)،

القصة كتقنية فنية (واضحة المبنى الساردة للأحداث) غائمة في نصوص لعنة الخطاب المزروعي، هي لعنات يعاني منها، وأخرى يصبّها على ظهر وجوده، حيث الغياب المتكرر، الفقد بطريقة أو بأخرى، لا تخلو مجموعة من مفردات متساوقة بين الموت والجنون، والعناوين المفجوعة جارّة لعناتها، مستفيدة من قاموس يميل دوما لصالح لفافات السجائر (المتكررة كاللعنات) والبصاق والقيء والديدان وعظام الأموات.

مع ذات تعاني الوحدة والتأزم الداخلي تراوح نصوص المجموعة "لعنة الأمكنة" لعبتها، فاتحة أبواب الأسئلة عن الحزن والوجود، وعبثية الحياة، وعن الذين رحلوا، الموت / المقبرة / القبر/ الأموات.. المفردات المحفزة لإطلاق مزيد من الألم للكائن المتوحد في عالمه، الضائق به حد التيه، يعبّر عنها نص القبو، وهو يمهد له بجملة للمسرحي سعد الله ونوس "من الظلام جئت وإلى الظلام أعود"، يبدأ من رؤية غائمة لما تسير عليه أحداث النص الذي بين يديه، تاركا للصور تتناسل من بعضها البعض بحيث لا يقبض على مفصل ما ليتركه يقود ذاته بدلا من تشعبه ذات اليمين وذات اليسار، تبدأ الفكرة بخاطرة / حديث ذات وتشرذمها، وتمضي في تداعيات التهاوي، للوصول إلى حافة النهاية بذات المنتهى الذي يؤول إليه الإنسان في خاتمة سيره على جسر الحياة.

التشبيهات في نصوص المجموعة منحازة إلى عالم "اللعنات"، لعنات الأمكنة.. والأزمنة أيضا، منها: كأني فراشة توشك أن تخرج من شرنقتها (ص19) ، كجناح نورس (ص19)، كذئب تلقى رصاصة قاتلة (ص23)، كذئب جريح تكالبت عليه كلاب قذرة، تخرج أصواتا من مؤخراتها (ص39).

تستدعي النصوص شخصيات تبني عليها سلالم خروجها من حالات الوحدة والإحساس المقيت باللاجدوى، النص الأول "خطوات لزجة للفرجة" يدور في حلقات مفرغة نرى فيها جمال عبدالناصر وجنائزيات باخ ورواية الأم لمكسيم غوركي وامرؤ القيس، في منولوجات تخاطب الكائنات بكراهية أقرب إلى الخطاب المباشر منها للغة القصة القصيرة، وبها مقطع عنونه المزروعي بـ"الرمق الأخير" دال على أنه ليس معنيا بالكلمة التي وضعها على غلاف المجموعة حيث أوضح أنها "قصص" فالمقطع هو نص شعري نثري:

أسافر بخطواتي المجنونة

أخطها على جمجمة الرمال

أنقلها مرة أخرى

لداخل خيمة هذا الليل. (ص15).

وفي نصوص أخرى يعمد المزروعي إلى تحميل نصوصه التي أرادها قصصية مسئولية تقديم شاعريته، كما يتضح جليا في نص مجدلية الزمن الآتي: "يا حزني الجميل اعتقني، اجعلني انطلق إلى السهول الخضراء، اتركني أمرغ وجهي في المراعي الخضراء، أقلب وجهي في نورها.. كل شيء يتقد في سمائك المكفهرة وأنا أرسم جنوني على وجهك" (ص26)، حتى اللحظات المرتبطة بالحب والألوان الخضراء لا تخرج عن دائرة الحزن والسماء المكفهرة وصولا إلى.. الجنون.

في نص "عندما سرت في جنازتي" يتخذ من فكرة صغيرة مدخلا لتقديم نص شعري، وضعه على لسان أبي سعيد، محمّلا "النص القصصي" أمانة نقل الصور الشعرية / شاعرية القاص أولا وأخيرا.

يفتتح نص "دموع وأشياء أخرى" بجمل شعرية مباشرة "أيها الفرح المثمر أينع، متى يأتي فصل حصادك يثمل هذا القلب المتدحرج على الوديان؟" (ص49) لكن تبقى لغة القص في هذا النص أكثر وضوحا، خروجا إلى حكاية الآخر، مسعود الذي يبيع وسيلة الفرجة الوحيدة في البيت ليشتري خروف العيد فيحقق فرحة لأطفاله الأربعة، يقع الكاتب في فخ فني حينما يدخل اسم حمدان بدلا من مسعود وهو يصف دخول الأب على أطفاله النائمين بانتظار العشاء، وفي آخر كلمات القصة يقدم الكاتب صفة مسعود، حيث الدموع التي "لا تنزل أبدا من عينه الوحيدة" (ص53)..

النصوص مبنية على حلم، يعرض تفاصيل الحكاية (أو رؤية الكاتب للوجود) في حزمة من الكوابيس المرتبطة بالموت والمجهول، في نص "قرية النّقّاق وما حدث لها" يبدأ بجملة "وأنا في الحلم كنت أحلم"(ص31)، يتدخل أحيانا ليعلق على مشاهد الحلم / الكابوس، مع نزوعه إلى إلباس المشهد غرائبية التشبيه كقوله: "كأني أتنفس في رحم عجوز تحتضر" (ص42).. البطل الهارب إلى البحر، المثخن بأحلامه وكوابيسه التي تلقيها براكين الوحدة إلى ذاكرته، المشغولة بالأمس، المتعبة باليوم.

يتضح اشتغال الخطاب المزروعي على النص الديني، لكن ليس استغراقا فيه، بل مرورا هامشيا معني بالأسماء، في نص مجدلية الزمن الآتي نجد مريم التي تحب عيسى، استدعاء للغائب، هي ليست مجدلية الزمن الماضي (السيدة العذراء مريم أم المسيح عليه السلام)، بل هي للآتي، المتداخلة مع صوت الداخل، المسحورة، يجمع مريم (أم المسيح) بمريمه أن عيسى ليس ابنا لها (مثلما يقول الماضي) لكنه الحبيب (المعذب) كما يريد الزمن الآتي، يخاطبها "أيتها العابرة بطهارتها الممزقة في زمن المشردين" (ص29).

في اللحظات التي يقترب فيها الخطاب المزروعي من القصة يشكل عالما جميلا وحالما، كمقطع من قصة "النقاق" حيث "الريحان" يسرد كيف نبت بطل الحكاية بعد ملايين السنين من الطوفان زهرة ريحان، متذكرا قريته الجميلة، تشمّها ابنته، إنما لا بد للحزن أن يطلّ.

وهناك جلنار، دلالة البراءة / الطفولة، من النص الأول يخاطبها الكاتب "جلنار حبيبتي، بيتي الكئيب الرائع" ص16)، وهي الطفلة في قصة هذا الليل ما أطوله التي أهداها لغسان كنفاني، كأنها ابنة الشهيد، انتظاره الابدي يشبه انتظر جلنار لأبيها الذي أخذوه وعذبوه.

في قصة سفر الجنون اللامتناهي تتحول الحكاية إلى حوار، مع الذات / الحبيبة / الأخرى أيا كانت صفتها، الأنا الحاضرة دوما، أنا الكاتب تعرض رؤاها عن العالم دون الحاجة إلى القصّ بالضرورة، تشكيل للقدرة الشعرية للغة، وهي تقدم نفسها ضمن حوارية الشخوص وعلاقاتهم المتشابكة مع الكون من حولهم..

- هيا ارقصي بحروفك الخرافية.

- سنطري الروح بنشوة الموت والخلود الأزلى ونحن نركب سحابة بيضاء بين غياهب الوجود.

- تململي أكثر، اجرحيني ببكائك الندي.

- لنرحل إلى الشمس، هيا يا حبيبتي، إنها لعبة الفراشة، لعبة الاحتراق الأبدي، لعبة الموت المندثر في سديم الأبدية.

- لن تنتهي هذياناتي أبدا يا حبيبي إلا عندما تكتمل اللعبة التي ورطتني فيها. (ص47).

يدس المزروعي بضعة أسطر تسبق حواريته الشعرية (كهذه) وينهيها بسطرين يختلفان عنها يأتي البحر كرديف للموت ينهي الحكاية، والحوارية تكاد تتشابه في نص نورسة البحر، الحوار السوفساطائي الباحث عن معنى أو لا معنى لما له معنى، يمتزج الواقعي بالحلمي في هذه القصة أو في غيرها من القصص، إنما يعبر عنه بشكل واضح حين يقول "تختلط الأشياء المكانية بالميتافيزيقية" مقررا حالته بوضوح تام "كانت الروح تبحث عن كتف تأوي إليه". (ص58)، ومن الحوار بين ذاتين (أو ذات واحدة) يصل المشهد في نهائيته إلى غرائبيته الساعية دوما إلى إحداث الدهشة حيث أنها "صرخت حتى تحولت نورسة طارت مع السرب" (ص60).

من العادي يحاول المزروعي أن يزرع في حقول الكتابة ما هو غير عادي، القول أن التفاصيل الصغيرة في حياتنا قابلة لتكون حروفا، يحيلها كاتب ما إلى تنويعات كتابية ليس ضروريا القول أن لها اسمها محددا، أو أنها تشترط عقدا مع القاريء لكتابة جيدة، مثلما قال الاستهداء الأول.

المصدر:

*مجلة نزوى- العدد(68) أكتوبر 2011م

www.nizwa.com

الثلاثاء، أكتوبر 18، 2011

في رثاءِ أثركِ واقتفائه

في هجيع الليل تتنزل تنانين الذكرى باردة ، تشبه الحمى الحميمة للروح ، لوجه غادر طين الجسد وسكن سماء الحنين ؛ هناك لكِ مسافة للرثاء .

- هذا رثاء لروح حية ، أم لغياب جسد وصوت وصورة؟!.

يأتي الصوت بقسوته ؛ من عتمة الغياب .

هل لي غير الروح المنثورة بين ضفاف الكلمات ، أتهجد بها في النسيان ؟!.

لِيُعْلَمْ أنك تهذين باسمي ، وتلهجين به في نومكِ ومماتكِ.

اذهبي إلى حيث تركتُ سمكة روحي على صخرة الخضر ، سمكة روحي الميتة، التي تركتها على شمس الظهيرة طرية الملمس لتخشّن قليلاً بالموت . هنيئاً لي غثياني ، هنيئاً لي ضيقي وبهتاني ودمامتي ، بحاري وترابي وأمطاري الجافة .

مُرّي باتجاه الساعة لتبقيني ، لا تقفزي على قلبي ؛ ولا منه ، كوني وسادته التي يبقى بها، لأجل ذلك صَنع الحجر ماءً رقراقاً يُحي الموات ، ويبقي الزئبق . انكفئي عليّ قبل الظلام ، قبل أن تمر البومات وتذهب بإصبعي . لا شيء غير اللاشيء . أحبيني قليلاً بفرشاة جنوني التي تنبثق كل صباح ، عندما تكون بوهيمية / مجنونة /نزقة ، ولا تنتمي إلى أحد . لا تأسفي على شيء كان منسيا ، أميطي حجابكِ الحجري ، لتشمي الياسمين ؛ وهو يخرج من تحت إبطيكِ الطاهرين ، أيتها المبجلة بالرياحين ، شيعيني بالكلمات حتى نهاية النقطة . في هذا اليوم رُفعت الحجب وأنشق الطريق/ شمس اليوم الساطعة/ حرف النسيان/تميمة الوقت / سرتكِ/ حكايات البحر والصدفة/ شعركِ الذي يلعب بالريح !.

لا تأبهي اليوم لي فأنا مرسول إليكِ ، أدفعُ الباب ..وأخرجُ . تعالي مع الريح ... فيما أهمُ أن أغرق ، رُفعتْ الحُجب وأنكشفَ التراب. لا تضعي الإبر على وجهكِ حتى لا تؤذيني !.

يا صانعة الحكاية الباذخة للوجع ، يا من علمتني اسم الفرس الخسران .لا تهمسي للتراب عن حكاية الماء ووردتكِ المسحورة . ألا تعرفينه هذا النكرة، الماضي بلا اسم وبلا معنى؟ ، ألا تقتلينه باسم ما أو صوت ما أو إشارة ما ؟! ألا تفعلينه لكي يحيا ؟.

لا تسأمي جنونه فقد ملّ حتى الطيور والأطفال ، اذهبي لا بأس .. اذهبي بلا وجه القمر ، لا تذهبي وراء الرمل فتذهب ريحي ... سمكة الروح.

هل لاكتكِ الحروف ، كما لاكني الضجر؟

وهل تأنسين بوجع الأشياء ؛ كما أستأنس بها ؟

ليكن الحرف نور دربكِ الممتد ، وسماء علياءكِ الباهرة ، لا تحري في وقفتكِ ، ولا تطيلي الوقوف فيها ...

اسكبي ضحكتكِ على قلبي وشريانه ! كسمكة طرية هو ، وكصياد ماهر يافع كنتِ !.

اذهبي بالماء والتراب وبالياسمين الأبيض ، وانثري وجعي المتعفن بخيانات الأصدقاء الصغيرة ؛والتافهة . لا تعيديني كما أشاء ...أتركِ الأشياء تجسدني على الظلال المارقة عن حقيقتها!.

مررتُ على وجهكِ كسحابة هاربة ؛ سحابة ظمآ في قطع مسافات ضوئية في السديم المعتكر ؛ بصوت العصافير الميتة . هناك أنتِ حيث أكتبكِ وأعيشكِ كما تشاء الحروف والأشياء ، وكما يشاء الرمل الميت ، الخارج عن رغبة البحر .. هل أنتِ بحر ؟!.

بالورد والبَرّد أحمّسُ اسمكِ وأغسله . قرأتكِ ذات كتاب لا أعرفه وعرفتُ قراءة حرف لا أكتبه .لا تشمتي بالحرف المفقود ، كما لا أسخر أنا من تاء النسوة والجمع السالم ، وأستاذ الحكايات ؛ الذي أخبرني : أن مخترع موسى حلاقة الذقن "شاذ" ؛فتركتُ الكرسي له وذهبتُ أتفقه في جسدكِ ؛ وأنشد خلاصي في وجهكِ ؛ الذائب في الشجر ،ورويتُ الأشجار عن بكرة بذرتها !. ماء الفقد الأزلي والعرجون الكسيح ، وجمعت لكِ أيضاً ما تبقى من أخبار الجان وحكايات السحرة ، والجنية التي تضاجع معلم القران .

شعركِ طري كالرمل ؛ يلتاذ به وجهي وحزني . وجه البحر اللازورد يعرفكِ .. يعرف خطواتكِ وممشاكِ وهمزاتكِ وسكناتكِ . يفسدني أثركِ في التيه ووجهكِ في المرآة ..لا تذهبي فتذهب روحي ، إبقي كما شئتُ من ألم .

حكاياتكِ الماثلة أمام السحاب تعيد ترتيب الأشياء بين حروف الحكاية ، تركتكِ هناك تجمعين لي فتات فرحي أيتها الندية!.ألم أقل لكِ ذات نهار ذائب : أنك كل أمطاري التي أشتهيها في صيفي القاتل ؟ ؛ هذا الصيف صارت الأمور بشكل يليق بموت محترم ؛ كأن تنصهر على كرسي هزاز !.

تحكين لي بعدكِ المفترض وعن مقاساتكِ ومواصفاتكِ لفارسكِ المبجل . تركتني في بداية صيف قائظ ، وكنتِ تعتمرين قلبي منذ بداية نهاية صيف العام الفائت ...هل مازلتِ في شتائكِ الفائت ؟.

فلتسامحني الأشياء وأنا أقتفيكِ : صوت العصافير/ ثغاء الشياة في المقبرة / رائحة الطلع / تنهيدة الفقراء / خرير ساقية الفلج /صوت الضاضو / زهر الأكاسيا / رائحة البل في الشتاء ...

ليغفر لي الله إسرافي الكلام عنكِ ولكِ ؛ ولكن الحرف يتبع هواه حتى لا يسقط في تيه الصمت المظلم .

يا لغيابكِ عن الدرب ، يا لحضورك في القلب . يا ثمرة الروح في بستان اللذة !.شعركِ الليلي / كحلكِ / رمشيكِ / قهوتكِ الصباحية :

يذكرني بنهارات مجنونة !.

ضمختِ الحرف بالشوق وبخرتِ أعمدة السر بعطركِ وبرائحة صابونكِ ، ببعدكِ وبنأيكِ صار للحكاية درب أقتفيه /أمطاركِ صارت بُرَكاً من الحزن ..!.

عليكِ مني السلام يا أيتها العابرة ، المنسوجة من خيط الحكاية ،وعنك السلام ...

عليك السلام ... ومنك السلام .

عليك السلام ... ومنك السلام .

ها أنا مرة أخرى أهذي باسمكِ وبوجعي لكِ وعليكِ .

- أني أحبُ الوقت كما أشاءُ ( قلتِ ).

- ولا شيء يستحق ( قلت لي ) .

وانتهيتِ تماماً من نسج حكايتكِ المُرّة . إن نبلكِ لا يسمح لكِ أن تتركي المهزوم يتوجع بالعالم ، ويترك لكِ جرحه مفتوحاً أينما ذهبتِ به . للبحر حكايات محزنة ؛كفرح الروح به ، ولي حكايات كوجعي بكِ.

عصفور الحكاية يأتي متّقصداً شباك الغواية ؛ يتقافز بلحنه . يخبرني بحكايته المُغبَطة بالحزن ، عن عشه في جهاز التكييف الذي تم التخلص منه ؛ من قبل إنسان لا يفقه التعب الذي بذله .. وكمية الألم الذي نزفه ذاك الصباح المُحبط . يحكي عن حبيبته التي تركته ، لأنه أصبح بلا مأوى !

تأتي حكايته بالغة القسوة .. تمر عليّ الحكاية كوجه الماء الآسن ، ليزداد بها طحلب الحزن تكاثراً ؛ الذي أصبح ينمو في بوتقة الألم ؛ لتزداد اتساعاً .. يزقزق ذاك العصفور بجرحه الدامي ، فيضحك الأطفال ، ويزداد هو حبوراً ؛ بوجعه المفرح !.

يزداد أثركِ وضوحاً ، وتبتعد المسافات اتساعاً ، أجمعُ صدفات الوقت عَلّي أستأنسُ بها في مشقة البين . الطين اللازب يعرف وجعي فيكِ ، وأنا أعجن ذراته ، بمياه الأمطار الموسمية .. التي تأتي إلى الروح بالفرح .. كلعبة يتلقاها طفل فقير ذات عيد مبهرج بنياشين الأغنياء وديون المعدمين ؛ الذين يتصنعون الضحك على الحياة ، إليكِ أثبُ بجرحي ، بخطواتكِ بجانب البحر اللازوردي، أهنئكِ بانتصاركِ لكِ ، وبغلظتكِ التي تنساب مع دموعكِ ، وأنتِ تكابرين شحذي بعيني على أقدامك ، كقطة تستجدي طعاما شَمت رائحته ,فزادها الجوع جوعا . ذهبتِ هناك .. ووقفتُ أنا هنا مبللاً بالمسافة ، أحكي لك استماتتي لك وعليك وفيك ، سأظل تحت الشمس حتى تغرب ، لأعلم أين المستقر ...؟.

سأقتفي الصوت الأول في حانة النسيان . كرعتُ كأسكِ دفقة واحدة ، ما بالكِ لا تشفقين على الزهر في الكأس الفارغ من حضوركِ ؟!.

البحث عن المختلف فيكِ جعلني أقلبُ الطين الأول في وجهي ، وأنت تضعين أصابعكِ الشمعية على بداية الأشياء ، لا أستثني ولعي بوجعكِ المارق على النور ، وحكاية الأشياء ...

ماذا أحكي في البعد سواء عن الغراب ، وحصاة الوشاة ، ونملة الوقت التي تمر ببطء ؛ يحرقني بطئها وسعة صدرها في رسم المسافات !.

لك في البعد وحشة ؛ وأنا اقتفي أثركِ الغابر .

الكتابة فعل تمجيد !. هل أمجدكِ الآن أم أقتلكِ في غياهب الحرف ولعنة اللغة الأزلية ؟.

هناك حيث أنا لست هناك ، وحدكِ تتمرأأين وجهي في فضاء النسيان ،وتحتفظين بظله ؛ كتحفة مكسورة لا قيمة لها ، إلا أنها كانت في زاوية القلب مبهرجة بالحضور . استمع إلى موسيقاكِ الذاهبة في عمق المسافات ؛ بحثا عن رحيق للروح ، يا للزمن ..

يا للزمن السائح في لوحة "دالي" !.

- تخلّص من وجعك . قلتِ .

وها أنا أنفضكِ من ثناياي ؛ ليسّاقط المطر في الصيف ؛ وتنتعشين بالغياب ، ويمر صاحب الوجه الذي يشبه ثمرة أجاصة مدعوصة بعناية ؛ يمر من أمامكِ .. تاركاً حقائب جنونه وسقطاته عند محطاتكِ ، لملميها بعناية إن شئتِ !.

هذا أثري فيكِ ، وأغنيتي عنكِ .

نوارس مدهونة برمال الحزن يأتي غيابكِ ، يخرج في الصباح الباكر من باب الصدفة , أتمرأى وجهي في مراياي المكسرة ؛ لعلي أجد ضالة الوقت في معنى أشيائكِ .. ضحكتكِ الخرافية التي تسافر قبل أن تخرج ، وكأنها نقمة على الكائنات ، هازئة بكل الذي يجري ، أو اللاكتراث ..

أعرف أنكِ تتمردين ببرزخة الغياب ، وتلعبين لعبة الغمّيضة الوجودية ، ما بالك .. نسيت حوض الزهور مملوء حتى الثمالة بماء الفقد, وتركت اللذة المشتهاة معلقة بين أوتدة العدم ؟!.

هذا السكر المتواصل من الكلمات لا يعنيني شيئاً البته ..سوى الاندثار القاتل / العدمي / الكافر.. لا يعنيني الآن شيئاً كما لا يعنيك كلامي الآن .

لا تنسي أن تعلقي قناديلكِ قبل أذان المغرب .. حتى نمر على الشاطيء حافيي القدمين , لنستمع إلى موسيقى البحر .. ذهبت وتركت أصابع يدي معرقة لم تجف أبدا ..تبحث عن حدود أصابعكِ . مربك هذا الصباح ، أحاول جمع ما تبقى على موانئ الساعات , أختلس النظر إلى صوتكِ العذب ، سأمر الآن أمام طيفكِ .. فلا تنبسي ببنت شفة !. حتى لا يتحلل الخيال المضطرب ؛ أجمعي ما شئت من الحطب , لنوقد القمر النائم على أريكة الفجر ، خذي نفسا عميقا واغطسي في البحر الناعس ، حتى لا تستيقظ كائناته بصوت خلاخلك .

أمجدكِ بالحرف ، والتمجيد فعل قتل متكرر .. لك هناك في ظلام البين قمر كسيح ؛ لن يضيء لك الدرب ،ولن تستطيعي إشعال حرف نازف ؛ يوقد المسافات الملتهبة بماء الفقد ، ستضحكين من خوف المجهول , وسطوة البقاء ..!!.

أعترف أن وجهك سيلاحقني ويوجعك الممتد في أثرك الغائب .. سلام لك في البعد . ما عاد الماء يذكرني بك ولا الطين ، أنا ابن الطين والماء !.

ليغفر لي الله ما أكتسبه لي لوعة الأشياء بها ،وعصافيري الملونة بالدهشة والخوف وصدمة الضوء . تفاصيلي التي كثيرا ما أنساها على زئبق الحرف ليأخذني على حين غرة ؛ حبا في الجمال والله

والكائنات ، وكرهاً للأغبياء والقتلة ؛ وجه القبح ! .

جاء عسل الكلام هذا دون وسيط إلهي .. نكاية بالمتحذلقين وقطاع الكلمات والرؤوس .

غفرانك اللهم من هذياني بها ولها .

غفرانك اللهم من وجهها ونسيانه .

غفرانك اللهم من أثرها واقتفائه .

الرجل صاحب الحلم

ما حصل بالضبط هو أن عامر رجع إلى البيت قبل صلاة الظهر بنصف ساعة ، وعادة يرجع قبل الصلاة بربع ساعة . لاحظت زوجته ذلك فلم تشأ في البداية أن تسأله ، إلا عندما لاحظت أن الساعة تعدت الواحدة بدقيقة وفي هذا الوقت كان لا بد أن يكون في المسجد .تعودت ذلك منه،منذ زواجهما قبل عشرين عاماً.سألته:

- ألن تصلي الظهر ؟

لم يجبها ، ولكي يتجاهلها ويقنعها أنه لم يسمعها؛ أغمض عينيه ، فأردفت عليه السؤال بصيغة أخرى :

- ألن تذهب للصلاة ؟

- متضايق..

غرق في ما رآه الليلة الفائتة في حلمه وأخذ يستعيده جيداً لعلّ تفكيره يوصله تفكيره إلى معنى يفضي لتفسير الحلم ، أخذ يتهجى الحلم بصوت خفيض: كنت أمشي في واد وأضع بذوراً فيه وحين انتهي من نثرها تنبت وتنمو وتثمر في نفس اللحظة ، ثم ينقطع الحلم ..

أقلق المرأة حالة زوجها ، فقررت أن تخاطبه بعد الغداء قبل أخذ قيلولته،سوف تداعبه وتمسد على ظهره وتقبله ؛ وتضع رأسه على صدرها ، وستسأله حينها عما يشغل باله .

تناول عامر الغداء دون أن ينبس ببنت كلمة ، حتى أنه لم يرفع بصره عن صحن الأرز الذي أمامه ، وحاولت زوجته أن تخرجه من صمته الذي أصبح ينمو بداخلها على شكل بذرة مقلقة .

- ألن تتكلم؟. قالت.

بدا لها،وكأنه يهم أن يجيب ولكنه لم يستطع أن يجيبها ، وهي بدورها لم تحاول أن تكرر له الكلام.

حاول أن يفتعل النوم.تململ في فراشه. ما يقلقه ليس الحلم بحد ذاته،بل أن ينام ويأتيه الحلم مرة أخرى، وفي نفس الوقت،أحس بإعياء نفسي يكبر في داخله.

بعد مكابدة ما يقارب ساعة؛أحس عامر، أن النوم بدأ بالتسلل إلى عينيه؛حتى تطابق الجفنان.كان يمشي في واد ويضع بذوراً فيه ،وحين انتهى من نثرها،نبتت ونمت واينعت؛رؤوس صغيرة لأجنة لا تتحرك.