الاثنين، ديسمبر 05، 2016

حواري مع وكالة الأنباء العمانية، والذي نشرته جريدة الوطن في ملحق أشرعة بتاريخ: 4/12/2016 الخطّاب المزروعي: القصّة فنُّ الإمتاع .. ويحزنني أن كتّابٌا وأدباء في الساحة الثقافية أطلقوا على “ذاكرة الكورفيدا” قصة طويلة !! يعترف أنه لم تكن هناك مسافة بين الراوي/ البطل/ المؤلف أنا لا ألزم نفسي باختيار الجنس الأدبي الملائم للنص قبل الكتابة!
مسقط ـ العمانية : المتتبع لإصدارات الكاتب العماني الخطاب المزروعي يلحَظ تطوّر لغته القصصية، فـ”عندما نمتلك اللغة ـ وهي إحدى وسائل التواصل التي يستخدمها الإنسان مع محيطه ـ نستطيع أن نوصل رسائلنا المباشرة أو الضمنية بشكل أدق وسريع”، لذلك يحرصُ صاحب “لعنة الأمكنة” (2003) على القراءة في المجالات الإنسانية المختلفة أكثر من حرصه على الكتابة، مما يجعل لغته تتطور تلقائياً وكأنه في مرانٍ دائم. يستعير الخطاب المزروعي في حواره مع وكالة الأنباء العمانية عبارة “تشومسكي” : “نمو اللغة عند الإنسان يشبه نمو الجسم”، مشيراً إلى أن لغة النص القصصي تختلف عن لغة الرواية؛ ولا بد أن تكون مركّزة وخاطفة ولامعة في آن. ولأن المزروعي تنقّل في الكتابة بين القصة، والنص، والقصة القصيرة جداً، والرواية، يثور السؤال: “أين تجد نفسك أكثر؟”، ليجيب عنه بقوله: “أنا لا ألزم نفسي باختيار الجنس الأدبي الملائم للنص قبل الكتابة! الموضوع هو الذي يملي عليّ ذلك، فلكلّ موضوع طريقةٌ يمكن طرحه ومعالجته أدبياً من خلالها”. ويضيف صاحب “التباسات”، وهي نصوص أدبية جمعها في كتاب سنة 2007: “أجد نفسي منجذباً للقصة القصيرة وفي الوقت نفسه تسحبني الرواية إلى أفقها الممتد، ولدي أيضاً مجموعة شبه مكتملة في القصة القصيرة جداً لكني لا أنوي نشرها قريباً، خشية أن أكرر نفسي من دون إضافة فنية، فهذا الأمر يقلقني”. ويرى المزروعي أن الاعتقاد بأن السارد يبدأ قاصاً وعندما “ينضج” يلجُ عالم الرواية، “تنقصه الدقة”، فالقصة القصيرة بحسبه، “جنس أدبي مستقل، وله لغته ومحيطه وظروفه”، وهذا ينطبق على الرواية أيضاً، وإن كان هذان الجنسان يشتركان في القصة أو الحكاية. ويستشهد بفوز الكاتبة الكندية “آليس مونرو” بجائزة نوبل للآداب (2013) بوصفها قاصة إذ لم تُعرَف كروائية، وفي المقابل مُنح الروائي الكولومبي “جابرييل جارسيا ماركيز” الجائزة (1982) على أعماله الروائية رغم أن إصداراته الأولى كانت في القصة القصيرة. ويميل المزروعي إلى وصف القصة بـ”فن الإمتاع”، مؤكداً أن على الكاتب “عجْنَ حكايته بلغة مشوقة وجاذبة ومدهشة، وتحويل الحكاية العادية إلى حكاية غير عادية، وإلا سيفقد القارئ دهشته وتشويقه وينصرف عنه”. ويبدو المزروعي في قصص “لعنة الأمكنة” بطلَ الحكاية؛ فهل من مسافةٍ يراها ضرورية بين النص السردي وسيرة الكاتب؟ هل يمكن القول إننا “نكتُبنا” على الورق بشكلٍ أو بآخر، وإن أصداء سيرتنا تتوارى بين سطور قصصنا؟ يؤكد المزروعي أن الراوي في القصص ليس الخطّابَ المزروعي “بالضبط”، ويستدرك بقوله: “أعترف أنه لم تكن هناك مسافة بين الراوي/ البطل/ المؤلف، وهذه من عثرات البداية التي وقعتُ فيها، فأنا أتعلم كل يوم، ولكنني في المقابل أستشهد دائماً بمقولة الطيب صالح: القصة القصيرة هي سيرة ذاتية غير معلنة”. ويشير إلى أهمية قطْع الوشائج بين الشخصيات والأفكار التي تطرحها في القصة القصيرة وبين المؤلف، فلا بد من إتاحة الفرصة للشخصيات لتتكلّم وتعبّر بعيداً عن وصاية الكاتب عليها وعلى القارئ. وفي حديثه عن “لعنة الأمكنة”، يقرّ المزروعي أنه وقع في مزلق اللغة الشعرية في هذه المجموعة، مما أثر على مجريات الحدث، رغم أن هناك من أعجبته لغة تلك المجموعة أكثر من مجموعة “الرائحة الأخيرة للمكان” (2011)؛ كون اللغة في “لعنة الأمكنة” مشحونة وشخصياتها قلقة ومتوترة بشكل مباشر وتعبّر عن حالاتها الاجتماعية والنفسية. وفي كتاب “التباسات”، يكتسي النص لدى المزروعي معنى جديداً ومغايراً مع كل قارئ بسبب انفتاحه على التأويل، فليس بمقدور أحد ادعاء امتلاكه المعنى النهائي للنص. فهل هو البحث عن قارئٍ شريكٍ يعيد إنتاج النص؟ يقول المزروعي في هذا السياق: “حين أكتب، لا أضع في رأسي قارئاً شريكاً أو مفترضاً، بل أترك للنص أن يخرج كما هو، لذلك جاءت (التباسات) ملتبسة الأجناس، وكتبتُها بوعي؛ في محاولةٍ للتخلّص من اللغة الشعرية في (لعنة الأمكنة)”، ويكشف أن هذا ساعده كثيراً في مجموعته التالية “الرائحة الأخيرة للمكان” التي تكشف عن ميله للتكثيف والاشتغال على البلاغة والإيجاز. تشتمل مجموعة المزروعي “سيرة الخوف” (2014) على نصوص تندرج ضمن “القصة القصيرة جداً”، وهو يرى أن “عدد الكلمات” معيار ضروري لغايات التجنيس الأدبي؛ ولكنه ليس الفيصل، فالقصة القصيرة جداً “تحتاج لمران لغوي وحكائي، فهي تقول كل شيء، وفي الحقيقة لا تقول شيئاً، لأنها حمَّالةُ دلالات مكثفة، والقارئ سيكون جزءاً منها مستقبلاً”. ويتّفق المزروعي مع من يرى أن هناك استسهالاً في كتابة القصة القصيرة جداً، من دون اهتمامٍ بمعاييرها ومتطلباتها، وذلك بتأثيرٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن للقصة القصيرة جداً أسماء فرضتها اللغاتُ والحالاتُ الاجتماعية، ففي أمريكا اللاتينية أُطلِقَ عليها “قصص ما بعد الحداثة”، وفي اليابان “قصص بحجم راحة اليد”، وفي الصين “قصص أوقات التدخين”، وفي الولايات المتحدة “قصص الومضات”، وفي العالم العربي شاعت أسماء كثيرة منها: “لوحات قصصية”، و”مقطوعات قصصية”، و”بورتريهات”، و”مشاهد قصصية”، و”أقصوصات”، و”ملامح قصصية”، و”القصة القصيرة الخاطرة”، و”القصة القصيرة الشاعرية”، و”القصة القصيرة اللوحة”. ولهذا لن نجد استقراراً واضحاً على مستوى الشكل في القصة القصيرة جداً. تبرز في قصص المزروعي الأسئلةُ الكبرى عن الوجود، والحياة، والموت. فهل تحتمل القصةُ الفلسفةَ، وهل عليها أن تعبّر عن موقف فلسفي؟ في هذا السياق، يعيد الكاتبُ التذكير بأن القصة كما يرى، “فنُّ الإمتاع”، ومن خلال القصة نستطيع طرح كثير من الأسئلة عن الحياة والوجود والموت والفرح والجمال والحرية وجميع المسائل والقضايا التي تهم الإنسان. ويستدرك بقوله: “لا أستطيع أن أقول بالمطلق إن القصة لا تحتمل الفلسفة بالمعنى العميق للفلسفة، فهناك قصص وروايات قرأتها ممتعة وقد انطلقت من منظور فلسفي، كرواية (المحاكمة) لكافكا، وكثير من أعمال ألبير كامو. لكن ما يجعل القصة الفلسفية تختلف عن القصة الأدبية؛ إنها تحتوي على رموز ومواقف معينة وتنظير في رسم الأشياء من جديد في الحياة، مما قد يُفقدها عنصر المتعة، ولكن في المقابل نستطيع أن نكتب القصة الأدبية التي تحمل دلالاتها وعمقها الفلسفي، من غير أن نحيد عن إمتاع القارئ وإدهاشه”. مضى أزيَد من عشرين عاماً منذ بدأ المزروعي مشروعه الأدبي، لكنه يرفض قياس جودة مُنتَجه بهذا المقياس، فهناك من يقضي عقوداً في الكتابة “من دون إضافة فنية أو حتى معرفية”. أما لماذا يواصل هو الكتابة، فلأنه –كما يقول- لم يعثر بعد على أجوبة كافية عن أسئلته الوجودية التي لازمته منذ طفولته، فضلاً عن سعيه المتجدد لإعادة رسم الأشياء و”نكشها” من حوله بطريقة مختلفة ومنهج مختلف. ويطرق المزروعي في عمله الأدبي الأخير، رواية “ذاكرة الكورفيدا” (2016)، باب التجريب الواسع في الكتابة، ويلجأ للترميز والتشويق واختيار نهاياتٍ تكسرُ التوقّع. وهو يتحدث عن هذه الرواية بقوله: “طرحتُ فيها بعض الثيمات والعُقَد في حياة الإنسان البسيط، بدأت كتابتها في فبراير 2014، لكنّها مرت بتغيرات وتغييرات بالمقارنة مع المخطط الأول الذي عملتُ عليه في البداية”، ويضيف أنه اعتمد تقنيةَ الدمية الروسية أو اللعبة الروسية، والتي تتضمن داخلها دمى أُخرى بأحجام متناقصة بالتوالي، لكنه لم يلجأ للتعقيد مفضّلاً الأسلوب البسيط في طرح الشخصيات بسلاسة من دون أن يغفل أن هناك خطّاً وهمياً سيكون في ذهن القارئ، لذلك “كثيراً ما يُطرح السؤال: لماذا لم يتوسع الكاتب في بعض الجوانب في الرواية؟”. و”الكورفيدا” (Corvida) فصيلة من الغربان تمتاز بالذكاء الحادّ، وقد تطورت هذه الفصيلة بشكل كبير على مدار حياتها. وفي الرواية اضطر المزروعي لتعريف الاسم لأسباب لغوية وفنية، ويرتبط الاسم بالشخصية الرئيسية في الرواية ارتباطاً سيميائياً. ويوضح المزروعي أن بعض الذين قرأوا هذه الرواية التي تكشف عن “ذكاء سردي” يجعل خيال القارئ مساهماً في حبكتها، وفي فهم الإشارات الرمزية التي تحفل بها، رأوا أن فيها ما يشبه البتر في مسارات بعض الشخصيات وأنه كان بالإمكان التوسع في كثير من الحكايات، لافتاً إلى أنه فضّل أن تسير الرواية كما خطّط لها؛ بصرامة وكثافة في خط سردي متماسك ومترابط، ومن دون الوقوع في الإسهاب أو أن ينهش جزءٌ منها جزءاً آخر. ويبدي المزروعي استغرابه لأن بعضهم اعتبر هذا العمل “قصة طويلة”؛ وهو عبارة عن “نوفيلا”، قائلاً: “من بين الذين أطلقوا على العمل (قصة طويلة)، كتّابٌ وأدباء لهم حضور على الساحة الثقافية في عُمان، وهذا يحزنني في الوقت نفسه، لأنهم لو رجعوا لتعريف دائرة المعارف البريطانية لمصطلح (novella) سيجدون أنه (سرد قصير محكم البناء)، والمراجع الأوروبية كثيرة ومتعددة في هذا الجانب”. يُذكر أن مجموعة “سيرة الخوف” للمزروعي، نالت لقب”أفضل مجموعة قصصية عربية صدرت عام 2014 في استفتاء أجرته منظمة كتاب آسيا وأفريقيا في اليمن، كما وصلت قصصه إلى القائمة القصيرة (200 أقصوصة) في مسابقة الأقصوصة بمتحف الكلمة في مدريد بإسبانيا (من بين 67000 متسابق) عام 2011.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق