الأربعاء، نوفمبر 23، 2011

خطوات لزجة للفرجه

باب البيت مفتوح على مصراعيه ، هدوء يخترقه صراخ الأطفال الذين يلعبون بين البيوت المجاورة ، وثغاء الشياه التي رجعت من المراعي في التلة المجاورة للمقبرة .

كان في حديقة المنزل صوت لصنبور ماء غير محكم الإغلاق ، وكلب ضال يربض بين الشجيرات تبدو عليه علامات المرض . ثلاث درجات لا بد أن تصعد حتى تدخل الصالة ؛ فتواجهك صورة جمال عبد الناصر بابتسامة تثير الشك حواليك ؛ قد كتب تحتها في الإطار نفسه: زعيم الأمة العربية ، أسفلها مباشرة مكتبة قديمة تحوي على مجلدات إمحت من على جلدها أسماء مؤلفيها ، وأخرى تمزقت ؛ بفعل الرطوبة والحرارة ( أو ربما بفعل كثرة استعمالها ) .

في الزاوية الأخرى كانت هناك طاولة وكرسي خشبي ؛ على الطاولة : أوراق كثيرة ، صحف ، منفضة ممتلئة بأعقاب سجائر المارلبورو الحمراء ، كأس فارغة ، أقلام مبعثرة بين الأوراق ؛ بشكل عبثي ، كتاب قديم اصفرت أوراقه وقد كتب على جلده بخط كوفي :( بدائع الزهور في وقائع الدهور ) ، وأربعة كتب أخرى إثنان مجلدان ، الأول ( الأيام ) لطه حسين ، والثاني عليه صورة تشي غيفارا ومكتوب تحت الصورة ( مذكرات غيفارا ) ، الإثنان الآخران ( زوربا ) لكزانتزاكيس ، و(الأحمر والأسود ) لستندال .

عندما تغامر قليلاً وتتجه إلى الغرفة الوحيدة في البيت التي تقع بين المطبخ وغرفة الدرج ؛ ثمة موسيقى خافتة تنبعث من الداخل ؛ عندما تقف على بعد خطوة واحدة عن الباب ؛ تتبين أن تلك الموسيقى هي (جنائزيات باخ) بهدوء أدفع الباب لأنه غير مغلق . خزانة الملابس على يمينك ، وأمامك مباشرة مكتب صغير عبارة عن طاولة وكرسي ( من الحديد ) لا تلمسهما لأنهما باردين كجثتين . على الطاولة مصباح قراءة . في الدُرج الأول ،أوراق عبارة عن مذكرات كتبت على شكل نصوص وخواطر يوميه .

تقول المذكرات ( مزودة برسوم سريالية ، بالحبر الصيني ) والمعنونة بـ :

( مذكرات صعلوك من الربع الخالي )

*خطوة ملعونة

وأنا أثب على عناكب رأسي التي باتت تبني لها شباكاً لتطيح به نهاراً، تعثرت بالزمن ... وهو يسحبني إلى مكان بعيد، ليلقي بي على قارعة هذا العالم ..

اركضوا يا أحبائي… هذه الرمال ستأكلكم ، ستلعقكم مناقير الغربان، ها ها… تصوروا هل تلعق الغربان بمناقيرها؟!.

وأنا في هذا الليل الذي أعبر فيه على جناح بعوضه، يخيل لي أني أضاجع نفسي، ما دلالة ذلك؟

اركضوا فالرمل أمامكم والرمل خلفكم.

كنت أبني بيتاً صغيراً من الرمال ليسكنه النمل، ولما نمت قليلاً رأيت رجالا يلبسون ثياباً سوداء يحنطونني في ذلك البيت، فهرولت تجاهه وعندما صحوت لأهدمه لم أجده، بكيت… ومن ثم بصقت على العالم.

*خطوة أخرى … بعيداً عن الكون التافه

يا غراب ..

يا أسود..

يا لحدا ما !

هذا الكلام لن تفهموه أبداً، لأنكم لا تضاجعون الوحوش ولا تأكلون مع الكواسر.

نامي يا حبيبتي وإن لم تشتهي النوم فاسكري!

لص أنا! هذا نص آه، أنا لست لصاً، أنا أصرخ في هذا الفضاء.

لقد سرقوا حبيبتي ، سرقوها!

وأنا أشاكس الشمس عند طلوعها، أرسم ظلاً لإنسان صار يحترق ، هنا لا أملك إلا الرمل وأصابعي وبقايا العظام، بنات آوى تصرخ، تصرخ ربما تتألم تصوروا إن ماتت ؟آه.. أنا أموت كتلك الحيوانات، اقتلني يا الله ،أنا لست كافراً .. ، لكني لا أحتمل السخرية، من أنا حتى أتحداك..؟ وأنا لا شي لديك فلماذا تتركني في هذا الربع المجنون؟!

اركضوا فالرمل أمامكم ، لا ..بل خلفكم. خلفكم ..أمامكم ،وخلفكم وعن يمينكم وعن شمالكم …

أتعرفون ذا القروح ؟

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل…

لا تقفوا ؟ لا تبكوا؟ لا تركعوا .. !

أنا الإنسان الملعون؟ المحتوف إلى هذا السطح؟

لا تركعوا اُصرخوا… اُصرخوا.. !!!.

*لم يبق شيء سوى الاعتراف

وأنا أرسم على صدري ببقايا عظام لطائر خانته جناحاه؛ صورة لقبيلتنا التي رمتني كالجرو الجرب في هذه الرمال الحارقة…

تعالوا جميعكم :… يا ابن الورد! تعالوا وأنت يا ابن الريب، قفوا جانباً ابكوا على أطلال القرن التافه .

تافهون كلكم ، أنا الصعلوك الذي.. قتلوه، تركوه يموت .

*تحد غير منطقي

لا لن أموت، قررت أن لا أموت، سـأشاكسكم، سأخرج من تحت العشب، سأقفز مع العصافير في الصباح الباكر، سيشاهدونني عند الغروب، أخرج لهم لساني...

أتضحك يا تافه، أتسخر مني. .

أنا لست من خصي أطفالكم! فقط يغريني في هذا الوجود لون الخمرة في القنينة!

سأصلي الآن، سأتيمم، سأغسل وجهي بهذا الرمل الطاهر ، أتعلمون لماذا هو طاهر؟ لأنه بعيد عن الأقذار والنجسين أمثالكم ! .

اركضوا لا تقفوا فالرمل أمامكم والرمل خلفكم.

- أريد أن أبعث برسالة إلى أمي :

فقط لا تبكي فأنا حزين والحمد لله ! و قبلاتك الطاهرة تصلني عند صلاة الفجر، سلمي لي على أصدقائي الميتين الذين دفنتهم منذ سنوات. قبلي عني الريحانة التي أمام بيتنا ، لا تتركيها وحيدة - كما أنا متروك هنا وحيدا - لا تتركيها تبكي... قبلاتي حبيبتي الطاهرة.

موتوا وإن لم تشتهوا الموت فاسكروا

لماذا لا تموتون؟ ! .

كان قلبي يرتجف من كثرة المرارة، التي تملأه سينفجر، سيروي هذه الرمال بدماء حمراء قانية ، كانت تغني نشيد الحزن.. لهذه الرمال .

سأقدم طلباً آخر، أن أموت في الليل!.

اقبروا كل التافهين الذين يكتبون ما يسمونه شعراً، لا يحاولون ذلك ، … ابتعدوا .. اجمعوا أعضاءكم . أنتم قردة، لا تفقهون شيئا من هذا الشيء العظيم.

هيا يا رمال ارقصي معي رقصة الموت، موتي.. موتي يا رمال، فأنا سأكتفي بالجبال، سآكل التراب ، أشرب السعال ..!.

يا غراب اِفقأ عيني، اِشرب دمي، فقط لأحمل قطرة من البحر اليابس

هيا اُرقصي يا رمال، رقصة الموتى .

وداعا لهذا الليل الظالم !

سيمفونية عظيمة، اسمعوا صفير الريح تحت إبطي، ستكون واضحة عندما تدخل الريح إلى عظامي، بعدما تنخر فيّ، ستأكلها الديدان، هذا إذا قبلت ذلك، وأنا أعلم أن الديدان لن تأكل شيئا من جسدي لأنه سيأكلها….

حبيبتي أتعرفين من أين أكتب هذه المذكرات؟

أكتبها من أجمل بقعة في هذا الكون ،بقعة على هذا الوجود لا أحد يستطيع أن يصلها أبداً ..

هنا في هذا الربع المجنون !

أمارس جنوني اللذيذ، وأنا أمضي بجنوني ، أسافر إلى مجرات عظيمة، إلى مجرة درب التبانة، فأرجع أميبيا بدائية، تعيش ولا تعرف لماذا هذه الأميبيا تعيش؟ قد ترسم حياة أخرى.

تبا لشعركِ الأشعث، أنا لا أحب النساء أبداً ، لا أحبهن أبداً، لا يساوين لدي شيئاً

*الرمق الأخير

أسافر بخطواتي المجنونة

أخطها على جمجمة الرمال

أنقلها مرة أخرى

لداخل خيمة هذا الليل

يحملني غراب يلقيني على وجهي

غيبوبة أخرى أسافر بها على هذه الرمال

وداعا يا جنون !

هذا كل ما أملك أقوله

سنلتقي بعد قليل

سنحزم حقائبنا السوداء بعد الرحيل

سنمتطي صهوة الصهيل

خطوة أخرى جريئة تحملني إلى قلبي ..

يبكي، ينفجر

أحبك حبيبتي ،ملعونة هذه الحياة تقتلني لتخلقني من جديد………………………وداعاً.

*خاتمة جميلة ملعونة – مرة أخرى

يا قلبي وأنت تتكسر .. وهج الرمال الحارقة تقتل أجمل شيء في هذا الوجود، تحمل الدماء المتخثرة في الأوردة.. دماء القبيلة. تجتمع الكواسر على جسدي، توزعني على مرافيء هذه الحياة أضحية جميلة، ولكن لحمها مر ، يقولون ذلك لأن صاحبها كان يقرض الشعر ولهذا فهو ملعون وخارج عن القبيلة ..!.

اركضوا فالرمل أمامكم والبحر خلفكم

جلنار حبيبتي، بيتي الكئيب الرائع ، صديقي الميت على فراشه المغرور بموته، لا تبكوا ها أنا قادم، فقط خطواتي بطيئة، لكن أنا أعلم أنها تحمل موتي البطيء، تتركني منبطحاً على سطح الرمال الذهبية، وداعاً يا قلبي الحزين..

* م ل ا ح ظ ة..

مذكرات عثر عليها.. برجلي غراب ميت على الرمال- رمال الربع الخالي وقد وجدت مكتوبه بدماء سوداء متخثرة على رمال صفراء دون تحمل أية مسئولية عما ورد فيها من تبرم وهذيان.

ستحس بعدما تنتهي من قراءة تلك الأوراق بإرهاق نفسي ، يظهر أنها وليدة حالة نفسيه عصيبة ..، أسفل المذكرات كتاب لونه أحمر ( الأم ) لمكسيم جوركي، وبضعت أقلام وممحاة وأوراق مسطرة ومذكرات صفراء صغيرة ، أغلق هذا الدرج ؛ لا تحاول أن تفتح الدرج الذي يليه ، أفتح الدرج الأخير ، أوراق متراكمة ما أن تحاول أن تنتشلها من الدرج حتى تتناثر بين يديك ، بفعل " الرمة " التي غزت كل شيء ...من الأفضل أن تغلقها .

أعلى السرير سترى صورة لمارسيل بروست ( مرسومة ) ، على يسار الصورة مكتوب على الجدار بخط رديء :

لا تمر من هنا ... فالزمن سيأكلك ، وإن تعذر هو عن ذلك ، لا تخف . سيتولى الأمر كل من حولك كمن يحمل شعلة في دهليز ؛ فيتوه ، فإما أن يختنق بدخانها ، وإما تحترق ملابسه ؛ إن لم يحترق هو .

إنسان مر من هنا ( قبلك )

سوف تتوجس الخوف في داخلك ؛ بعد أن تقرأ ما كتب ، ولكن اتجه إلى النافذة ، واسحب الستارة المتهالكة برفق . لا تلتفت جهة السرير ..! ، وإلا انغرزت في قلبك نظرات إنسان مسجى.. بعينين زجاجيتين. يعرف قبلك ما سيؤول إليه حالك ؟! في هذه اللحظة لن تملك إلا شيئاً واحداً هو أن تكتب على الجدار .. جملتك الأخيرة . هذا إن كان في الزمن من متسع ؟! .

هناك تعليقان (2):

  1. سيمياء الروح23 نوفمبر 2011 في 12:11 م

    أن تنبش من الذاكرة نصوص كتبت في لحظة
    غارقة , في عمق الوحدة والألم ,فكأنما ترمم قلعة مضى عليها زمن طويل لتقف شامخة من جديد!
    كافر شعور الحزن الذي نعتنقه رغما عنا_لنقص الأديان التي نعرفها في الفرح _يغرز خنجره الغادر في أخمص بقعة من الروح
    لتسيل دماء السعادة قطرة قطرة على أرض واقعنا !
    ثم نكتشف أننا فارغي الأيدي من ذواتنا و انتعلنا الوحدة نمشي بها في طرقات الحياة المكتظة بأشباه البشر!
    الخطاب ,اقبل اعتذاري فلقد شوهت نصك بحضوري الكئيب
    ولكن احساس بالغموض والحزن والوحدة وربما الخوف تسرب إليّ حين قرأتك .

    ردحذف
  2. الروح المعافاة تفوح منها رائحة نتنه...مثل المرض يأتي لتزداد أجسادنا مناعة! حضورك زاد النص نورسة بيضاء أضاء شاطيء الكلمات

    ردحذف