الأربعاء، نوفمبر 30، 2011

ما يحدث


نَهضْتُ مُنزعِجاً، بعدما أيقظني الصداعُ الذي يكادُ يفجِّرُ رأسي مِنْ أثرِ الخُمار.

اتجهتُ إلى المطبخِ، وأعددتُ كوبَ قهوةٍ ثقيلٍ حتى أزيحَ الوجعَ، تمشيّتُ متجهاً إلى الشُرفةِ المُطلةِ على بُستانِ النخيل؛ لأشمَّ كمية َأوكسجين متمنياً أنْ يخُفَ الصداعُ.

جلستُ على الكرسي وأنا اَنظرُ إلى البستانِ الذي يقعُ أسفلَ التلةِ مباشرةً التي يعتليها ضريحُ قيدِ الأرضِ.

ها أنا وحيدٌ ليس لدي أحدٌ أشاركه صداعَ رأسيَ الثقيلُ الذي بدأ ألمهُ يضغطُ على ناصيةِ الوجه لينزلَ الألمُ مباشرةً إلى عينيَّ، ضغطتُ بإصبعيَّ الإبهامِ والوسطى على مقدمةِ جمجمتي بشكلٍ متواصلٍ. عدّلتُ من جِلْستي على الكُرسي وأنا أناظرُ الضريحَ؛ ترى ما الذي يفعلهُ قيدُ الأرضِ في هذه اللحظةِ، هلْ مازال يقظاً ويعرفُ ما يحدُثْ؟

كيف يعرفُ وهو ميتٌ؟ جاءَ السؤالُ من داخلي الملتبسِ بأشياءَ قديمةٍ مُربكةٍ. حدثَ ذلك عندما كان عُمري ستَ سنواتٍ، وأنا مارُّ بجانبِ قبرِ جدي الميتِ منذ ثمانينَ عاماً، وقد دُفِنَت زَوْجَتُه بجانبه ، حقيقةً لا أعلمُ من ماتَ منهما أولاً وهل أوصيا بدفنهما بالقربِ من بعضهما وفي مكان منعزل؟ صادف ذلك وأنا أمرُّ بجانبِ القبرين أنْ وجدتُ عمي يُتمتمُ بشفتيه؛ وما كدتُ أمرُّ عنه حتى ناداني: تعال لماذا لا تسلم على جدك؟ اِرتبكتُ ..مَنْ جدي؟ هذا قبرُ جدك. قال وأشارَ إلى القبر. عندما تمرُّ في كل مرة بجانبه فقل: "السلامُ عليكم دارَ قومٍ آمنين ، أنتم السابقونَ ونحن اللاحقونَ".

لكِنَّ الفرقَ خمسونَ عاماً بينَ سنةِ ولادتي وموتُ جدي ، كيف سيعرِفُني؟

هل يعني هذا أن الأمواتَ يسمعونَ، ويعرفونَ ما يحدث، وإلا ما كذبَ عليّ عمي، فهو إمامُ مسجدٍ، ويُصلي باستمرارٍ، إذا لا بُدَ أنه لا يكذبُ. ولكنْ كيفَ سيعرفُ جدي عبدالله أني حفيدُه، وأُدُعى عبدالله وقد سُميتُ بذلك تيمناً به، فهو كما يصفه أبي قويٌّ وكريمٌ.

إذاً الجثةُ التي تقبعُ داخل القبر، وفوقها مئاتُ الأطنانٍ من التراب؛ والتي تعتلي التلةَ المقابلةِ لي؛ تعرفُ ما يحدث!

ارتشفتُ قطرةً من القهوةٍ وأخذتُ أمجُّها داخلَ فمي؛ فانتبهتُ إلى أنَّ الصُداعَ بدأَ بالتلاشي، وضعتُ الكوبَ على الطاولةِ الصغيرةِ ودخلتُ إلى المطبخ وأحضرتُ كأسِ ماءٍ، شربتُ نصفه ووضعتُ الكأسَ على الطاولة.

أطلقتُ ناظري للمشهدِ الذي أمامي بعدما جلستُ على الكرسي إلى البستان الذي يقع تحت ناظري مباشرة؛ جزيئاتٌ من أضواءِ أعمدةِ الشارعِ تتساقطُ على رؤوسِ نخيله، هبّتْ نسمةٌ باردةٌ اِقشعرَّ لها جِلْدُ زَنْدي نظراً لكوني لا أرتدي سِوى مَلابسَ النومِ.

كان البخارُ يتصاعدُ من فُرَضْ فلجِ الصايغي؛أخذتُ أشاهدُ البخارَ المتصاعدَ، أحسستُ بالدفِء يتسللُ إليّ، رُغمَ النسماتِ الباردةِ التي أخذتْ تتوالي مع طلوعِ الفجر، إذاً بإمكاننا أن نُحول الأشياءَ من خلالِ النظرِ إليها؛ إلى أجسادنا مِنْ مجردِ النظرِ لها والإيمانُ بأنها شيءٌ جميلٌ ورائعٌ سنُحِسُ بجزيئاتها، وبقيمتها الحقيقيةِ، ومكوناتها الفيزيائية. أليسَ هذا ما أشعرُ به على الأقل؟.

أخذتُ أنقلُ بصري بين الضريحِ ومنظرِ بخارِ الفلجْ..ياه.. ضريحُ قيدِ الأرضِ، وفلجُ الصايغي؛ أيضاً مَنْ صاغهُ... قيدُ الأرض؟

ولكن هل صحيحٌ أنه بناه بمساعدةِ الجنِ، بناهُ في ليلةٍ واحدةٍ؟ قلتُ: لا يُمكِنْ. قد يكونُ لديهم من القدراتِ أكثرَ من البشر، ولكن كيف استطاعَ قيدُ الأرضِ أن يأمرهم، وكيف توصلَ لإمرتهم؟

وجهتُّ أسئلتي باتجاه الضريحِ ثُمَ أغمضتُ عينيّ، وتركتُ جهازي السمعي وحده يعملُ بعد أن سحبتُ كميةً ضخمة ًمن الأوكسجين ...

أصواتُ كلابٍ،ضحكةُ امرأةٍ، أصواتٌ بعيدةٌ لبشرٍ، هديرُ محركِ سيارةٍ تمرُّ بشكلٍ سريعٍ، أصواتُ حشراتٍ، حفيفُ شجرٍ، رجلٌ يكحُّ، صوتُ ريحٍ ناعمةٍ، ضُلفة شباكٍ تصطدمُ بأخرى، أذانٌ، أذانٌ.. أذانٌ..أذانٌ..أذانٌ..أذانٌ..أذانْ .

· مقطعٌ من عملٍ سرديٍ طويل.

* نشر النص في ملحق أقاصي 30 نوفمبر 2011

http://www.eshabiba.com/default.aspx?selPg=907&page=30_11_2011_059.jpg

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق